حديث: الميت يعذب في قبره بما نِيح عليه
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « الميت يعذب في قبره بما نِيح عليه »(1) متفق عليه، ولهما نحوه عن المغيرة بن شعبة -رضي الله تعالى عنه.
يعني « الميت يعذب في قبره بما نيح عليه »(1) كما في حديث ابن عمر: « الميت يعذب في قبره بما نيح عليه »(1) وشاهده حديث المغيرة بن شعبة.
وفي حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: « الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه »(2) في حديث ابن عمر بلفظ آخر في الصحيحين: « الميت يعذب ببكاء أهله عليه »(3) فجاءت الألفاظ بأنه يعذب بالنياحة والبكاء، وجاء في اللفظ الآخر ببعض بكاء أهله عليه.
وهذا الخبر في الصحيحين يبين أنه يُعذب ليس بكل البكاء، بل ببعض البكاء وهو البكاء الذي يكون فيه صراخ وعويل، وهو النياحة وهو الندب، ندب الميت وتعداد محاسنه على سبيل التسخط للمقدور وعدم الرضا به، والمراغمة والاعتراض على القدر كل هذا يكون أمرا محرما.
ثم اختلف العلماء في قوله-عليه الصلاة والسلام-: « الميت يعذب في قبره بما نيح عليه »(1) مع أن في هذا الخبر للعلماء طرق في قوله: « الميت يعذب في قبره بما نيح عليه »(1) قيل: إن هذا خاص في هذا الخبر ومستثنى من قوله -تعالى-: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(4) وأن هذا النص على ظاهره، وأن الميت إذا مات فناح عليه أهله وصاحوا وعولوا عليه؛ فإنه يعذب وإن كان ليس من فعله، وقالوا: إن هذا مستثنى، وللشارع أن يستثنى أمورا في بعض الأمور وأجروا هذا النص على هذا، هذا مسلك.
وسلك البخاري -رحمه الله- مسلكا آخر، وقال: إنه يعذب بما نيح عليه إذا كان النوح من سنته، هذا المسلك الثاني وقال إذا كان يعلم أن أهله ينوحون، ومن عادتهم النوح على الميت فلم ينهاهم عن النوح؛ فإنه يكون مقرا لهم عليه ومتسببا في وجود النوح والبكاء المحرم فيأثم بذلك.
الطريقة الثالثة: أن يوصي أهله بالنوح سواء كان من عادتهم أو لم يكن من عاداتهم، أن يوصي أهله بالنوح فيعذب بالأمرين: بالنياحة وبالوصية، فإذا أوصاهم بذلك عُذِّب، وحملوا هذا الخبر على ما إذا أوصاهم.
والمسلك الرابع: قالوا: إن العذاب هنا المراد به الألم والتألم وأن الميت يتألم لبكاء أهله عليه، واستدلوا بما رواه ابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة والطبري عن قيلة بنت مخرمة، قال أن الرسول-عليه الصلاة والسلام- قال: « إن أحدكم يبكي فيستعبر له صويحبه، أي عباد الله، لا تعذبوا موتاكم »(5) أو كما قال-عليه الصلاة والسلام-.
قال: « يستعبر له صويحبه »(5) يقول: إنكم إذا بكيتم عليه وحزنتم وبكيتم فإنه يتألم من بكائكم ويتأثر كما أن الأحياء يتأثرون، وربما تعذب من بكاء أهله وتأثرهم وحزنهم فيؤلمه هذا، فهو نوع عذاب كما قال-عليه الصلاة والسلام-: « السفر قطعة من العذاب »(6) فهو عذاب من جنس التألم.
وهذا اختاره جمع من أئمة المالكية، ورجحه تقي الدين شيخ الإسلام ابن تيمية، والقاضي عياض، وجمع من أهل العلم، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- وذكر اختيارا يجمع هذه الأقوال كلها، فقال ما معناه إنه لا مانع أن يقال: إن العذاب على عمومه يشمل جميع ما اختاره هؤلاء القوم:
فمن كان النوح من سنة أهله فلم ينههم فيعذب، أو ربما عذب لأنه ترك نهيهم عن المنكر، أو إذا أوصاهم بذلك ووصاهم فيعذب بكونه لم ينههم، ويعذب -أيضا- بوصيته، فيعذب بالأمرين، وكذلك في المسلك الآخر أيضا يعذب به.
وإذا كان ليس النوح من سنتهم، ولم يوصهم بذلك وقد احتاط ولم يقع شيء من هذا، ولو إذا كان من سنتهم نهاهم، ما فرط، ثم مات، وناحوا عليه، خالفوا وصيته، أو لم يكن من سنتهم وليس من هديهم، وناحوا بعد ذلك فإنه يعذب، بمعنى: أنه يتألم.
ولا شك أن هذا الاختيار -يعني- يجمع بين الأقوال، والحافظ ابن حجر -رحمه الله- له عناية في الجمع بين الأقوال والخبر على عمومه، فيقال: إنه يشمل كل ما ذكر مما ذكره أهل العلم في هذا الباب.
(1) البخاري : الجنائز (1292) , ومسلم : الجنائز (928) , والترمذي : الجنائز (1002) , والنسائي : الجنائز (1853) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1593) , وأحمد (1/41). (2) مسلم : الجنائز (928). (3) البخاري : الجنائز (1288) , ومسلم : الجنائز (928) , والترمذي : الجنائز (1002) , والنسائي : الجنائز (1858) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1593) , وأحمد (2/31). (4) سورة الأنعام (سورة رقم: 6)؛ آية رقم:164 (5) (6) البخاري : الحج (1804) , ومسلم : الإمارة (1927) , وابن ماجه : المناسك (2882) , وأحمد (2/496) , ومالك : الجامع (1835) , والدارمي : الاستئذان (2670). |