حديث: شهدت بنتا للنبي صلى الله عليه وسلم تدفن
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: « شهدت بنتا للنبي -صلى الله عليه وسلم- تدفن ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس عند القبر فرأيت عينيه تدمعان »(1) رواه البخاري.
وفي هذا ما كان-عليه الصلاة والسلام- من العناية بأمر رعيته ومن يعنيه، وكذلك بأمر أهله فشهد أمر دفن ابنته-عليه الصلاة والسلام- شهد دفنها وحضرها.
وفيه أنه بكى-عليه الصلاة والسلام- ودمعت عيناه، وهذا يؤخذ منه أن مثل هذا جائز، وأن دمع العينين جائز، وأن البكاء بدمع العينين لا بأس به، كما بكى-عليه الصلاة والسلام-.
وفي الصحيحين عنه-عليه الصلاة والسلام- من أن ابنة للنبي-عليه الصلاة والسلام- أرسلت له أن يأتي إليها؛ لأن ابنها كان في النزع، وقيل إنها زينب فأرسل إليها -عليه الصلاة والسلام- قال: « إن لله ما أخذ وإن لله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب »(2) فعزَّاها ولم يأت في أول مرة حتى تُسلم لأمر الله ولقضاء الله، فأبت عليه.
وأرسلت له حتى يأتي، فجاء-عليه الصلاة والسلام- ورفع الصبي في بين يديه ونفسه تقاطع، يعني: تذهب وتأتي، فبكى-عليه الصلاة والسلام- فقال بعض الصحابة أو سعد بن عبادة: « ما هذا يا رسول الله؟ قال: إنها رحمة »(3) هذه رحمة، دمعت عيناه-عليه الصلاة والسلام- فالبكاء بدمع العين هذا لا بأس به.
أما البكاء بالصوت الذي يكون فيه صراخ، هذا هو المحرم.
بكـتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها *** ومـا يغنـي البكاء ولا العويل
والبكا: مقصور بالدمع، والبكاء بالدمع مع الصوت؛ فالبكا إذا كان مع الدمع لا بأس به دمعا، أما إذا كان مع الصوت فهذا منهي عنه إلا إذا كان الصوت يسيرا، الصوت يسير وليس به عويل، فهذا يظهر -والله أعلم- أنه لا بأس به.
وفي الغالب أن الإنسان قد لا يخلو من الصوت أحيانا إذا اشتدت عليه المصيبة لا يخلو من الصوت، فلا بأس بمثل هذا، إنما النهي عما يكون فيه صياح وصراخ وعويل، أو يكون فيه نياحة أو ندب أو تعدد الميت، هذا هو النهي عنه.
وقد جاء في حديثٍ عند أحمد أن النبي-عليه الصلاة والسلام- وأبا بكر وعمر عند جنازة، أو حضر قبرا فبكى أبو بكر وعمر، قالت عائشة -رضي الله عنها:- "والله إني لأسمع بكاء"… فقالت: إني لا أميز أو أفرق بين بكاء أبي بكر وبكاء عمر.
دل على أن مثل هذا مستثنى مثل الندب اليسير، الندب اليسير الذي لا يكون فيه اعتراض على القدر، وهذا بعض أهل العلم أجازه لهذا.
قالت فاطمة -رضي الله عنها-: « وا كرب أبتاه! قال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، قالت: وا أبتاه! أجاب ربا دعاه، وا أبتاه! إلى جبريل ننعاه، وا أبتاه! جنة الفردوس مأواه! »(4) .
وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: وا صفياه! وا خليلاه! كما رواه أحمد « أنه وضع يديه على صدغيه-عليه الصلاة والسلام- وقبَّل بين عينه، وقال: وا صفياه! وا خليلاه! »(5) .
وهذا محتمل أن يقال إنه من الكلمات اليسيرة التي تكون لا على سبيل الجزع، وهي تنبئ عن الحب الصادق، خاصة فيما إذا كان المفقود له شرف في الدين، في العلم والفضل والجهاد، فقد يستثنى مثل هذا.
وقد قال ابن قيم -رحمه الله- في كتابه (عدة الصابرين): أن مثل هذا مستثنى، والأصل فيه أن ما يكون للندب أنه منهي عنه، هذا هو الأصل، ويحتمل أنه يقال: إن ما جاء أنه لم يبلغ من فعل ذلك، وفاطمة -رضي الله عنها قالت هذا عند الصحابة، ولم ينكروا عليها، وكذلك يظهر أنها قالت ذلك بعدما توفي أو لما كان في حال النزع.
فالمقصود أن الأولى اجتناب مثل هذا، ولا بأس كما سبق البكاء الذي يكون الصوت فيه يسيرا، مع أن الصبر عن مثل هذا هو الأولى والأكمل.
(1) البخاري : الجنائز (1285) , وأحمد (3/228). (2) البخاري : التوحيد (7377) , ومسلم : الجنائز (923) , والنسائي : الجنائز (1868) , وأبو داود : الجنائز (3125) , وأحمد (5/204). (3) البخاري : المرضى (5655) , ومسلم : الجنائز (923) , والنسائي : الجنائز (1868) , وأبو داود : الجنائز (3125) , وأحمد (5/205). (4) البخاري : المغازي (4462) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1629) , وأحمد (3/141). (5) أحمد (6/31). |