حديث: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فيقول الإمام الحافظ بن حجر -رحمه الله تعالى-: وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده -رضي الله عنه-: « أن امرأة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فألقتهما »(1) رواه الثلاثة، وإسناده قوي، وصححه الحاكم من حديث عائشة.
وعن أم سلمة -رضي الله عنها-: « أنها كانت تلبس أوضاحا من ذهب، فقالت: يا رسول الله، أو كنز هو؟ قال: إذا أديتِ زكاته فليس بكنز »(2) رواه أبو داود، والدارقطني، وصححه الحاكم.
حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده -هو عبد الله بن عمرو بن العاص- وهذا الخبر في زكاة الحلي، والخبر الذي بعده حديث أم سلمة، وجاء في معناه أدلة تدل عليه، منها: حديث عائشة عند أبي داود، وحديث أسماء بنت يزيد بن السكن عند أحمد -رحمه الله-، وفي معنى هذه الأخبار أخبار أخرى أيضا.
وحديث عبد الله بن عمرو، حديث -كما قال المصنف رحمه الله- رواه الثلاثة وهم: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وإسناده قوي، وقال بعضهم: إن إسناده صحيح، كذلك حديث أم سلمة، وفي معناه حديث عائشة وأسماء بنت يزيد، فمنها ما هو صحيح كحديث عبد الله بن عمرو، وهذا الباب يعضد الأخبار فيها بعضها بعضا.
واستدل بهذه الأخبار من قال: إن الزكاة تجب في الحلي -في حلي النساء من الذهب والفضة- إذا بلغ نصابا، إذا بلغ نصاب الفضة وهو مائتا درهم، وإذا بلغ نصاب الذهب وهو عشرون مثقالا، ونصاب الفضة -كما سبق- هو مائتا درهم، وهي تقارب ستمائة غرام، أو نحو خمسمائة وسبعة وتسعين؛ لأن الدرهم يعادل ثلاثة غرامات إلا شيء يسير.
فعلى هذا ينبغي الاحتياط، وأن يكون إذا تجاوز الخمسمائة غرام يزكى؛ لأن هذا -كما سبق- كله مبني على الاحتياط، ومعرفة هذه الدراهم مثل ما سبق، وإلا فليس وزنها على الدقة في عهده -عليه الصلاة والسلام-، إنما هو في كثير من الأحيان من باب الظن.
كذلك الذهب عشرون مثقالا وإحدى عشر جنيه، بالجنيه السعودي، وقدرها خمسة وثمانون غراما، فإذا بلغ هذا القدر من الفضة، وإذا بلغ هذا القدرمن الذهب -وجبت الزكاة على هذا القول في هذه الأخبار.
وقال جمهور العلماء: لا زكاة فيه -إنه لا تجب الزكاة في حلي النساء ذهبا أم فضة-، وقالوا: إن الأدلة التي جاءت لا تشمل الحلي، والحلي يقولون: مما يشبه متاع البيت، ويستخدم ويكون مبتذلا مثل: ثياب الخدمة، وما أشبه ذلك، فهذا لا زكاة فيه مثل غيره، مما يبتذل ويركب.
وقالوا: إن الأخبار هذه التي في الباب لا تصح، ومنهم من قال: إنها وإن ثبتت فإنه ليس المراد بها الزكاة الشرعية المقدرة، إنما المراد بها بمعنى الزكاة العارية -زكاته أي: عاريته-، وقال بعضهم: إن هذا لما كان الذهب حراما على النساء. هكذا قالوا.
والقول الثاني وهو قول الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله-، وقال الشافعي: يستخير الله فيه. وجعله بعضهم قولا عنه -رحمه الله- قالوا: إن الزكاة تجب في حلي النساء، والدليل فيه أمران، قالوا:
الدليل الأول: هو عموم الأدلة التي توجب إخراج الواجب في الذهب والفضة، عموم الأدلة، ولو لم يكن في الباب أخبار خاصة، ومنها قوله -تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾(3) .
والأدلة التي جاءت من السنة في الدلالة على وجوب الزكاة في الذهب والفضة، ومنها قوله -عليه الصلاة والسلام- في الصحيحين كما سبق: « في الرقة ربع العشر »(4) فقالوا: إن هذا يشمل الذهب بجميع أنواعه، فهذه هي الأدلة العامة.
وقالوا: إن الأدلة الخاصة أيضا واضحة وصريحة، أنها تعضد هذا الأصل، منها: حديث عبد الله بن عمرو، وما جاء في معناه، وهو حديث صحيح، قالوا: أما قولكم: إن الزكاة هي العارية، فهذا قول ليس بصحيح؛ لأن العارية غير الزكاة.
وكيف يعبر الشارع عن العارية بالزكاة، الزكاة لها معناها، والعارية لها معناها، ثم أنتم -أيها الجمهور- لا تقولون: العارية واجبة، تقولون: مستحبة. والزكاة واجبة، ولو أنها لم تعره فلا شيء عليها.
أما قولهم: "إنها لما كان الذهب حراما"... فهذا ليس بصحيح، بل هذه الأدلة واضحة في أنه لما كان الذهب حلالا، وهذه المرأة: « جاءته وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، قال أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار. فألقتهما »(5) .
في اللفظ الآخر: « وقالت: هما لله ورسوله »(6) « مسكتان من ذهب »(7) يعني: سواران، وعلى هذا تكون هذه الأدلة حجة واضحة في وجوب زكاة الحلي أو الحلي -الذهب والفضة- في حق النساء؛ لعموم الأدلة ولخصوصها.
وحديث أم سلمة واضح أنه قال: " أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا " « قالت: أكنز هو؟ قال: ما أديت زكاته فليس بكنز »(8) فالكنز: هو ما لم تؤد زكاته، ولو كان ظاهرا واضحا فوق الأرض.
ولو كان في باطن الأرض وهو يزكى فليس بكنز: « ما أديت زكاته فليس بكنز، حتى ولو كان في باطن الأرض »(9) وما لم تؤد زكاته فهو الكنز الذي يكون رضفا، ويكون يكوى به جنب صاحبه وجبينه وظهره، إذا لم يؤد زكاته، ولو كان ظاهرا على وجه الأرض.
فهو أخبر-عليه الصلاة والسلام- أن: « ما أديت زكاته فليس بكنز »(9) وهذا شامل، وهذا جاء في حلي النساء من الذهب والفضة، فوجب إخراج زكاته، وهو واضح وصريح في وجوبها.
فعلى هذا يكون القول الأظهر هو ما ذهب إليه أبو حنيفة -رحمه الله-، وهو رواية عن أحمد -رحمه الله-، وقول للشافعي.
وممن أظهر هذا القول، وجرد القول به في هذا العصر، وأفتى به واشتهر بفتواه -الإمام الكبير الشيخ "عبد العزيز بن باز" رحمه الله، وغفر له، وبرد مضجعه، ونور ضريحه، وقدس روحه، آمين، بمنه وكرمه إنه جواد كريم.
كان يفتي بهذا ويظهره، ويبين أنه هو القول الصحيح، ويستدل بعموم الأدلة، ويستدل بخصوص الأدلة في هذه الباب؛ فلهذا كان هو الواجب، ومن كان لم يبلغه وجوب الزكاة، أو لم يبلغها وجوب الزكاة في الحلي فإنه لا شيء عليه فيما مضى، يستأنف ويبتدأ فيما استقبل، ويزكي كلما مر عليه الحول.
فالواجب أن يزكيه للحول، والواجب هو زكاة الذهب والفضة فحسب، فلو كان مثلا ثم يقدر بما يساوي، يقدر بما يساوي الذهب والفضة.
ولو كان في الذهب مثلا شيء -يعني- يضاف إليه من اللؤلؤ المرصع بالجواهر واللؤلؤ، هذه لا زكاة فيها؛ لأن الزكاة لا تجب إلا في نفس الذهب، وفي نفس الفضة، إلا أصحاب محلات الذهب، فهؤلاء يزكون كل شيء من جميع الحلي التي عندهم، جميع أنواع الحلي التي عندهم يزكونها، بما فيها من اللآلئ والجواهر بجميع أنواعها الموجودة؛ لأنها زكاة تجارة، لأنهم يتاجرون فيها فتكون الزكاة زكاة تجارة.
وهكذا مثلا: لو أن امرأة أو رجلا يبيع ويشتري في حلي النساء، يزكي الجميع بما يساوي، أما إذا كان يُلبس -تلبسه المرأة- فلا تزكي إلا الذهب أو الفضة، وما سوى ذلك فإنه يطرح ولا يكون فيه زكاة.
(1) النسائي : الزكاة (2479) , وأبو داود : الزكاة (1563) , وأحمد (2/204). (2) أبو داود : الزكاة (1564). (3) سورة التوبة: 34، 35 (4) البخاري : الزكاة (1454) , والنسائي : الزكاة (2455) , وأحمد (1/11). (5) النسائي : الزكاة (2479) , وأبو داود : الزكاة (1563) , وأحمد (2/204). (6) النسائي : الزكاة (2479) , وأبو داود : الزكاة (1563). (7) النسائي : الزكاة (2479) , وأبو داود : الزكاة (1563). (8) أبو داود : الزكاة (1564). (9) أبو داود : الزكاة (1564). |