حديث: جهد المقل وابدأ بمن تعول
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: « قيل: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول »(1) أخرجه أحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
والحديث إسناده صحيح، وفيه: « أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول »(2) "جهد المقل": هو الذي ينفق ويتصدق عن قلة، وفي اللفظ الآخر: « ما كان ظهر غنى »(3) الحديث في الصحيحين: « أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى »(4) واختلف العلماء في هذين الخبرين: هل هما مختلفان متعارضان؟ .
والأظهر أنهما لا تعارض بينهما في قوله -عليه الصلاة والسلام-: « ما كان عن ظهر غنى »(3) يعني: الأفضل أن يتصدق الإنسان صدقة، ويبقي لنفسه ما يغنيه عن سؤال الناس، فقد يبقي شيئا كثيرا يتوسع به لنفسه ولأولاده، وقد يبقي شيئا قليلا يكفيه لحاجته ولأولاده، ولو لم يتوسع في أنواع المباحات، لكنه كف عورته، وكف نفسه، وكف أهله عن السؤال.
فهذا هو جهد المقل، وهو عن ظهر غنى، لكن من كانت صدقته عن ظهر غنى -الذي هو مقدار الحاجة والكفاية- أفضل ممن كانت صدقته عن ظهر غنى، وهي في باب التوسع، في باب المباحات.
ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: « سبق درهم مائة ألف درهم. قالوا: كيف ذلك يا رسول الله. قال: رجل كان عنده مائة ألف درهم، فجاء إلى عرضه فأخذ منه مائة ألف درهم وتصدق به، ورجل كان عنده درهمان، فأخذ أحدهما وتصدق به »(5) .
هذا صاحب الدرهمين لا شك أن صدقته عن جهد وعن فاقة، لكنه أبقى لنفسه شيئا من المال لكي يكف نفسه، فهذا الدرهم سبق مائة ألف درهم لذلك الرجل؛ لأن العبرة بما يقوم في القلوب.
وأفضل الصدقة أن تصَّدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم، قلت لفلان: كذا، ولفلان: كذا، وقد كان لفلان، ومثل الذي يتصدق عند الموت كمثل الذي يهدي إذا شبع.
وما جاء في هذا المعنى مما يدل على أن أفضل الصدقة هي في حال حب المال، وفي حال الشح بالمال، وهكذا إذا كان عن حاجة وعن شدة، فإنه يكون أفضل مما إذا كان عن سعة وعن ضيق، لكن بشرط أن يكف نفسه؛ ولهذا أبو بكر -رضي الله عنه- سبق عمر -رضي الله عنه- حينما تصدق بذلك المال.
في حديث ابن عمر عند الترمذي: « أنه -عليه الصلاة والسلام- دعا الناس إلى الصدقة، فقال عمر -رضي الله عنه-: أسبق اليوم إن سبقت أبا بكر، فجاء عمر بنصف ماله، فقال له: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم مثله. ثم جاء أبو بكر يحمل ماله كله، فقال له: ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قال عمر -رضي الله عنه-: والله لا أسابقك إلى شيء أبدا »(6) .
يعني: ما سبق أبو بكر إلى خير إلا سبق -رضي الله عنه-؛ ولهذا كان جزاؤه عند الله عز وجل: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾(7) وهذه في أبي بكر -رضي الله عنه- فجزاؤه عند الله، وقد كان له من الأنعام والأفضال العظيمة في أول الإسلام والنفقة، لكن ليس جزاؤه إلا عند الله عز وجل.
فالمقصود: أن النفقة إذا كانت من قلة فإنها أفضل؛ ولهذا اختلف العلماء في الصدقة بجميع المال: هل تجوز أو لا تجوز؟ والصحيح أنه يجوز بشرط: أن يصبر على القلة، وإذا كان له أولاد أو أهل فإنهم يصبرون على الضيق، ولا يحملهم على الشدة كما فعل أبو بكر.
أما إذا كان يتضرر أو يتضرر أهله، فكما قال -عليه الصلاة والسلام-: « يأتي أحدكم بماله كله ثم يذهب ويتكفف الناس، أو يسأل الناس، وجاء ذلك الرجل ببيضة من ذهب أصابها من معدن -كما في حديث جابر عند أبي داود- فقال: خذها يا رسول الله. فأخذها ثم رماه بها، فلو أصابته لعقرته »(8) .
يعني: لجرحته وأصابته، من جهة أنه علم -عليه الصلاة و السلام- أنه لا يصبر، فدل على أن من يشق عليه، أو لا يصبر عندما يريد النفقة والصدقة -فإنه لا يجوز له أن يتصدق بمال، ثم بعد ذلك يسأل ويتكفف الناس.
في حديث أبي سعيد الخدري عند النسائي وغيره: « أنه -عليه الصلاة والسلام- دعا الناس إلى الصدقة، جاء رجل بذ الهيئة فدعاهم إلى الصدقة، فتصدق الناس عليه، فأصاب ثوبين، فتصدق بأحدهما، فأنكر عليه -عليه الصلاة والسلام- تصدقه بأحد هذين الثوبين حينما دعا الناس، وقال: إني رأيت في مثل هذه الحالة فدعوتكم إلى الصدقة عليه، فتصدق بأحد ثوبيه، خذ ثوبك فلا حاجة لنا به »(9) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
المقصود: « أن أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول »(2) يعني: أن عليه أن يبدأ بمن يعوله، فلا يعطي الناس ويترك أهله وأولاده، وشاهده الحديث الثاني عن أبي هريرة.
(1) أبو داود : الزكاة (1677) , والدارمي : الزكاة (1651). (2) أبو داود : الزكاة (1677). (3) البخاري : الزكاة (1426) , والنسائي : الزكاة (2534) , وأبو داود : الزكاة (1676) , وأحمد (2/527) , والدارمي : الزكاة (1651). (4) البخاري : الزكاة (1426) , والنسائي : الزكاة (2534) , وأبو داود : الزكاة (1676) , وأحمد (2/527) , والدارمي : الزكاة (1651). (5) النسائي : الزكاة (2528) , وأحمد (2/379). (6) الترمذي : المناقب (3675) , وأبو داود : الزكاة (1678) , والدارمي : الزكاة (1660). (7) سورة الليل: 19 (8) أبو داود : الزكاة (1673) , والدارمي : الزكاة (1659). (9) النسائي : الجمعة (1408). |