حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: « أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم »(1) رواه البخاري، وعن شداد بن أوس « أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى على رجل بالبقيع، وهو يحتجم في رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم »(2) رواه الخمسة، إلا الترمذي، وصححه أحمد، وابن خزيمة.
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: « أول ما كرهت الحجامة للصائم، أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدُ في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم »(3) رواه الدارقطني وقواه.
حديث شداد بن أوس: « أفطر الحاجم والمحجوم »(4) جاء له شواهد عدة، حديث جيد، شاهده حديث رافع بن خديج، وحديث ثوبان، وحديث بلال، وحديث أسامة، وعائشة، وأحاديث كثيرة في هذا الباب، بل هي متواترة عند بعض من أهل العلم، تبلغ نحو أربعة عشر حديثا أو أكثر، وكثير منها جيد الإسناد، دلالة على أنه يفطر الحاجم والمحجوم.
هذا هو لفظه، وهو قول أحمد، الإمام أحمد، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-، وذهب الجمهور إلى أن الحجامة لا تفطّر، لا تفطّر الصائم، واستدلوا بحديث أنس بن مالك، الذي ذكره المصنف -رحمه الله-، وفيه أنه رخص في الحجامة.
هذا الخبر قواه الدارقطني -رحمه الله-، ورجاله رجال البخاري، وله شاهد بإسناد صحيح من حديث أبي سعيد عند النسائي، والدارقطني أيضا، أنه -عليه الصلاة والسلام- « رخص في الحجامة، وأنها نسخت »(3) .
وله شاهد آخر من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، « أنه نهى عن المواصلة والحجامة، ولم يحرمهما »(5) فجاء في ذكر الحجامة إبقاء على أصحابه، أنه لم يحرمها.
وجاء في حديث أنس بن مالك عند البخاري، أنه قيل له: « أتكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف »(6) .
فهذه الأخبار متفقة على أن الحجامة منسوخة، فعلى هذا إما أن يقال: إنها منسوخة بهذه الأخبار، أو يجمع أيضا بهذه الأخبار، ومن وجه آخر بما ذكر أنس بن مالك -رضي الله عنه-، وهو أن الحجامة مكروهة للصائم، من جهة أنها تضعف البدن، « قال: إلا من أجل الضعف »(7) .
ولهذا من علم أنه إذا احتجم فإنه يضعف، وضعفه قد يؤدي به إلى المرض، ومرضه يؤدي به إلى الفطر، فيحرم كما سبق أيضا في القاعدة، فيما يئول إلى أمر محرم بشيء قريب إليه، فإنه يحرم.
والأقرب هو قول الجمهور، من جهة أنها ليست مفطرة، لكن هي قريبة، كما قال أنس -رضي الله عنه- إنها مكروهة؛ لأن الحجامة في الغالب تضعف، وقد تسبب دوخة، أو دورانا للجسم.
وهو أنه الحاجم يضع القارورة على الموضع الذي يحجمه، فيمص القارورة.. فيمص الهواء، والهواء يمص ما في البدن؛ ولهذا قال: « أفطر الحاجم والمحجوم »(4) المحجوم واضح لكن قد يفطر الحاجم، قد يقول الإنسان: الحاجم كيف يفطر؟ المحجوم واضح، لكن الحاجم.
الحاجم -والله أعلم- أو كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- وغيره، أن الحاجم يضع فمه في القارورة، أو الآلة التي يمص بها الهواء، والهواء يمص الدم من البدن، فربما مع مص الهواء، نزل أو صعد إلى جوفه قطرة، أو قطرات من الدم بدون أن يشعر، والقاعدة: أن الشيء إذا كان مظنة لشيء، جعل له حكمه، ولو لم يكن حقيقة.
فإنا نقول: قد يمص دما، وقد لا يمص دما، فنجعله بحكم مص الدم، فيفطر على هذا الخبر، مثله النوم، النوم ينقض الوضوء، لكن لماذا ينقض الوضوء؟ لأنه مظنة للحدث.
فلما كان النوم مظنة للحدث، نقض الوضوء، وقد لا يُحدث النائم، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- في حديث معاوية حديث علي -رضي الله عنه-، في معناه حديث علي « العينان وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء »(8) .
هذا يبين أنه لو نام مثلا متمكنا من نومه، وغلب على ظنه عدم الحدث، فزالت المظنة هنا، وعلم عدم وجوب مظنة الحدث الذي مظنته النوم، فلا يحدث ذلك، ونومه لا يكون حدثا بهذا.
هكذا أيضا في مسألة المحجوم..في مسألة الحاجم، وعلى هذا نقول: إنه كما ذهب إليه الجمهور، أن الحجامة لا تفطر؛ لهذه الأخبار من هذا الباب، ويلحق بالحجامة أيضا جميع ما يكون فيه إخراج الدم، بأي طريقة أُخرج الدم.
يعني ليس المقصود -والله أعلم- هي مجرد الحجامة، المقصود هو إخراج الدم بأي شيء، سواء كان بالفصد، أو بالشرط، أو بإخراج الدم بالوسائل الحديثة، بل ربما كان إخراج الدم بهذه الوسائل أشد؛ لأنه يخرج الدم الكثير والدم النافع.
فلهذا يكون في حق الصائم لا بأس به، إلا إذا كان يورثه ضعفا في البدن، فإنه يكون مكروها، فإذا آل به إلى الفطر، فإنه يكون محرما، كما جاء عن أنس -رضي الله عنه-.
(1) البخاري : الصوم (1938) , والترمذي : الصوم (777) , والنسائي : مناسك الحج (2845) , وأبو داود : المناسك (1836) , وابن ماجه : المناسك (3081) , والدارمي : المناسك (1821). (2) أبو داود : الصوم (2369) , وابن ماجه : الصيام (1681) , وأحمد (5/283) , والدارمي : الصوم (1730). (3) (4) الترمذي : الصوم (774) , وأحمد (3/465). (5) أبو داود : الصوم (2374) , وأحمد (5/364). (6) البخاري : الصوم (1940) , وأبو داود : الصوم (2375). (7) البخاري : الصوم (1940) , وأبو داود : الصوم (2375). (8) أبو داود : الطهارة (203) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (477) , وأحمد (1/111). |