حديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء مكة دخلها من أعلاه
وعن عائشة -رضي الله عنها-: « أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء مكة دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها »(1) متفق عليه.
هكذا كان يفعل -عليه الصلاة والسلام- في دخوله إلى مكة كان يدخلها من أعلاها: وجاء في لفظ آخر: « من كدا بالمد، وخرج من أسفلها من كُدا »(2) وفيه ثلاثة أماكن: كَدا وكُدا وكُدي، فدخل من كدا -عليه الصلاة والسلام-، وخرج من كُدا، وكَدا: يقولون: إنها من ناحية الحاجون، وهي عند الثَنِيِّة العليا، والثَنِيِّة هي: كل مرتقى صعب في جبل أو في سهل.
فدخل من تلك الجهة، وخرج من أسفلها -من كُدا- يقولون: من جهة الشبيكة من ذلك المكان، ودخوله -عليه الصلاة والسلام- هل هو دخل إليه قصدا، وأنه دخل من هذا المكان، وأن من جاء إلى مكة يقصد ويدخل من هذا؟ أو أنه كان اتفق له، وكان الداخل في ذلك الوقت، من ذلك الطريق أول ما يشرف له، وأول ما يظهر له: الحرم والكعبة؟ الله أعلم.
فالمقصود: أنه -بما يظهر والله أعلم- أنه يُشْرَعُ الاقتداء به إذا تيسر ذلك، وهكذا كان كثير من الصحابة يفعل ذلك، وأخبر أنه كان يفعل ذلك عبد الله بن عمر، فكان يدخل من هذه الجهة، ودخلها -صلى الله عليه وسلم-عام الفتح من هذه الجهة، وقال أبو سفيان للعباس بن عبد المطلب -لما دعاه إلى الإسلام-: "لا أسلم حتى تطلع الخيل من ها هنا. "
يقول له هذا لما أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- دخول مكة -فتح مكة- قال العباس: "ما هذا ؟" -يعني استنكر هذا- قال: "شيء طلع في قلبي.
فجاء النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى مكة فاتحا، فسأل أبا بكر: ماذا قال حسان؟ قال: " قال:
عدمت بنيتي إن لم تروها *** تثير النقع موعدها كداء
فقال -عليه الصلاة والسلام- ادخلوها من حيث قال حسان؛ فدخلها مع أعلاها -عليه الصلاة والسلام- (3) قد يكون ذلك إشارة إلى علو الدين وانتصاره، حيث كان فَرْقٌ بين خروجه منها لما خرج مهاجرا، خرج خائفا -عليه الصلاة والسلام- مختفيا، ودخلها في يوم الفتح منصورا عزيزا كريما.
وكان -عليه الصلاة والسلام- دخلها بكل تواضع، وطأطأ حتى إنه ليصيب مورك رحله -عليه الصلاة والسلام- من تطامنه وتواضعه-عليه الصلاة والسلام-؛ تواضعا لربه، وشكرا له، وتحميدا له -سبحانه وتعالى-، هكذا كان يدخلها، وهذا الدخول: سواء كان في نسك، أم ليس في نسك.
وجاء: « أنه في العمرة دخلها -صلى الله عليه وسلم-من كدا »(3) هذا الخبر -إن ثبت- يدل على أنه كان الأغلب من أحواله أن يدخلها هكذا، وربما غَيَّرَ موضع دخوله -عليه الصلاة والسلام-، وهكذا كانت سنته -عليه الصلاة والسلام-: أنه في مثل هذه الأمور، أو في دخوله ربما غَيَّرَ الطريق، كما أنه إذا كان في عيد خالف الطريق -عليه الصلاة والسلام-، كان يخالف الطريق، ويذهب من طريق، ويأتي من طريق آخر.
(1) البخاري : الحج (1577) , ومسلم : الحج (1258) , والترمذي : الحج (853) , وأبو داود : المناسك (1869) , وأحمد (6/40). (2) البخاري : الحج (1578) , ومسلم : الحج (1258). (3) |