حديث أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا ثلاثة أشواط
وعنه -رضي الله عنه -يعني عن ابن عباس- قال: « أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين »(1) متفق عليه، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- (2) « أنه كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا، ومشى أربعا »(3) وفي رواية: « رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إذا طاف بالحج أو العمرة أول ما يقدم، فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت، ويمشي أربعة »(4) متفق عليه.
وهذا هو السنة -كما ثبت في الخبر من حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس- أنه يسن لمن طاف الطواف الأول -وهو طواف القدوم، وهو الركن للعمرة- أنه إذا أراد الطواف، فإنه عليه أن يرمل ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر.
الرمل: هو الإسراع مع مقاربة الخطا: أنه يمشي ويسعى، وهو الخبب، ليس كالإسراع الشديد ولا مشي، بل يمد في خطوه، ويسرع قليلا مع مقاربة الخطا، ويكون فيه هز للمناكب؛ إشارة إلى القوة والنشاط، وإحياء السنة التي فعلها -عليه الصلاة والسلام-.
فيمشي من الحجر إلى الحجر ثلاث مرات، ثلاثة أشواط، هذا هو السنة، مع كشف المناكب كما سيأتي +، وهذا الخبب والرمل ثبت من سنته -عليه الصلاة والسلام- في عمرة القضية وفي حجة الوداع، فثبت في عمرة القضية: لما أنه صارح كفار قريش عام الحديبية أن يدخلها من قابل، وأن يدخل معه بالسلاح، وأن تكون السيوف في القراب -يعني في أغمدتها-، فدخل -عليه الصلاة والسلام- هو وأصحابه، وقد كانوا متعبين، وقد أصاب بعضهم ما أصابهم.
فدخلوا مكة، فلما دخلوا مكة تكلم بعض الكفار، ورأوهم وهم في الحرم، وكانوا يستندون إلى الكعبة في الحجر، وكان بعض كفار قريش في ذلك الموضع؛ فقالوا إنهم وهنتهم حمى يثرب -يعني: أضعفت قوتهم - فسمعها الرسول -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه؛ فأمرهم أن يرملوا ما بين الحجر إلى الحجر فرملوا، وإن كان أمرهم -إذا كانوا بين الحجر الأسود والركن اليماني- أن يمشوا.
لأنهم ربما اشتد عليهم ويرتاحوا بين الركنين، لأن الكفار لا يرونهم فيما بين الركنين: من جهة أنهم مختفون عنهم، وأنهم مستندون إلى الكعبة في الحجر فكانوا يرملون في الأشواط الثلاثة، ويمشون بين الحجر الأسود والركن اليماني، هذا في عمرة القضية.
فبعض أهل العلم قال: إن المشروع هذا -وهو الرمل- والمشي بين الركنين، هذا نقل عن ابن عباس وعن جماعة، والأظهر والصواب: أنه يشرع الرمل ما بين الحجر إلى الحجر، وهذا الذي ثبت في الصحيحين عن ابن عمر، وفي حديث جابر بن عبد الله -رضى الله عنهما-: « أنه -عليه الصلاة والسلام- رمل من الحجر إلى الحجر »(5) .
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيما ثبت في الصحيحين: " إنا كنا قد راءينا، أو رايينا المشركين، والآن قد أتى الله الإسلام وأهله" ثم جاء في الرواية الثانية أنه قال: " علام الرمل وهز المناكب، وقد أتى الله الإسلام وأهله؟ إنما كنا راءينا المشركين " ثم قال: " شيء عملناه مع النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا ندعه. "
وهذا هو الصواب كما ذكر -رضي الله عنه- أنه فعله -عليه الصلاة والسلام- في حجة الوداع، ثم هو رمل من الحجر إلى الحجر، وهذا قد يكون الشيء يوجد لسبب ثم يزول السبب، ويبقى ما ترتب عليه السبب؛ لأسباب أخرى غير ذلك السبب، ومصالح عظيمة، وهذا واقع.
وقد يكون من المصالح -كما ذكر بعض أهل العلم- أنهم يتذكرون نعمة الله عليهم، وأنه فرق بين طوافهم ذاك، وبين طوافهم في هذه المرة، وطوافهم في حجة الوداع كان بعد دخول مكة، وبعد فتحها، وبعد دخول الناس في دين الله أفواجا، ثم الحج.
فكأنه فيه تذكر وإظهار لتلك النعمة؛ فقد يزول السبب ويبقى مسببه، وقد يكون له أسباب أخرى؛ فلهذا ليس هنا إلا التسليم للشرع هذا هو المشروع بل الواجب.
ويبقى مسببه، وقد يكون له أسباب أخرى، منه هذا الرمل؛ فلهذا ما ليس هنا إلا التسليم للشرع، هذا هو المشروع، بل الواجب هو التسليم، والإنسان لا يدخل عقله في بعض الأمور، التي لا يكون المعنى فيها ظاهر كل الظهور، وكل الوضوح، وقد يكون هنالك معان تظهر له، وقد يكون هنالك معان أخرى لا تظهر، لكن ليس عليك إلا التسليم، كما سيأتي في خبر عمر -رضي الله عنه- في تقبيل الحجر، نعم.
ولهذا قال: يمشي أنه خب ثلاث ومشى أربعا، الخبب ثلاث والمشي أربع، ولو أنه فات الخبب في ثلاثة أشواط، أو نسيت الخبب في الشوط الأول، أو الشوط الثاني، ما نقص في الشوط الرابع أو الخامس لا، الخبب أو الرمل هيئة في الطواف الأول والثاني والثالث، إذا فات موضعه لا يقضى، فهي هيئة، مثل الهيئة في الصلاة، إذا فات موضعها لا تقضى، ثم المشروع الخبب والرمل.
ولو أن الإنسان يقول: إذا دنوت من الكعبة، فإنه لا يتمكن من الخبب والإسراع، وإذا أبعد فإنه يأتي بالخبب والمشي، نقول: إتيانه بالإسراع والمشي -وهو أبعد- أولى وأكمل؛ لأن العبادة المتعلقة بهيئة العبادة، أولى من العبادة المتعلقة بمكانها، فالخبب متعلق بنفس الطواف، وهو هيئة في الطواف، أما الدنو فهو متعلق بمكان الطواف، وهو الدنو من الكعبة، والهيئة المتعلقة بذات العبادة، مقدمة على الهيئة المتعلقة بمكانها.
وجنح بعض أهل العلم، كابن عقيل وجماعة، إلى أن الدنو مقدم على الرمل، وقال: إن الدنو مقدم من جهة، أنه كالتقدم للصف الأول في مكان العبادة، فلو أن إنسان يقول: أنا أريد أن أتأخر للصف الأخير مثلا، في صلاة الفريضة حتى أجافي، لا يكون هنالك ضيق، نقول له: تقدم في الصف الأول، وإن فات التجافي؛ لأنه أفضل، وأكمل من كونك تفوت الصف الأول؛ لأجل أداء بعض العبادة المتعلقة بالهيئة، لكن هذا ضعيف، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-.
لأن التقدم في الصفوف الأول أمر مطلوب، والصفوف مأمور بالتراص فيها، ومأمور بالإتيان للصف الأول فالأول، وجاء في فضلها ما جاء، بخلاف الدنو من الكعبة، فلم يأت فيه شيء من ذلك، ثم الطواف، كل إنسان يطوف لنفسه.
أما الصلاة فإننا نصلي جماعة، ثم أيضا جاءت السنة، بمشروعية الخبب والرمل، وأنه من هديه -عليه الصلاة والسلام-، وجاء عن الصحابة ونقلوه، وأنه فعله بخلاف الدنو من الكعبة، فلم يأت فيه شيء من هذا، وإذا أمكن أن يجمع بينهما، كان هو الأفضل والأكمل، وإلا فإن الإتيان بالرمل، ولو أنه مثلا قال: سوف أنتظر قليلا، حتى يخف الزحام ليتحقق، فله ذلك؛ ليتحقق له الرمل، أو يتحقق له الرمل مع الدنو من الكعبة.
(1) البخاري : الحج (1602) , ومسلم : الحج (1266) , والنسائي : مناسك الحج (2945) , وأبو داود : المناسك (1886) , وأحمد (1/294). (2) البخاري : الحج (1617) , ومسلم : الحج (1261) , والنسائي : مناسك الحج (2941) , وأبو داود : المناسك (1893) , وابن ماجه : المناسك (2950) , وأحمد (2/30) , ومالك : الحج (817) , والدارمي : المناسك (1841). (3) البخاري : الحج (1617) , ومسلم : الحج (1261) , والنسائي : مناسك الحج (2941) , وأبو داود : المناسك (1893) , وابن ماجه : المناسك (2950) , وأحمد (2/30) , ومالك : الحج (817) , والدارمي : المناسك (1841). (4) البخاري : الحج (1617) , ومسلم : الحج (1261) , والنسائي : مناسك الحج (2941) , وأبو داود : المناسك (1893) , وابن ماجه : المناسك (2950) , وأحمد (2/30) , ومالك : الحج (817) , والدارمي : المناسك (1841). (5) مسلم : الحج (1263) , والترمذي : الحج (857) , والنسائي : مناسك الحج (2944) , وابن ماجه : المناسك (2951) , ومالك : الحج (816). |