حديث إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع
وعن عمر -رضي الله عنه- أنه قبَّل الحجر وقال: « إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولو لا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك »(1) متفق عليه.
وهذا من عمر -رضي الله عنه- يشير إلى أصل أصيل، وإلى قاعدة عظيمة، وهي التسليم للشرع، والاقتفاء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- والاقتداء به، هذا المقام مقام التسليم، يخاطب الحجر، يقول: والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع.
قاله في مثل هذا المقام؛ لأنه إمام في ذلك الوقت -رضي الله عنه-، والناس كان كثير منهم قريب عهدهم بالجاهلية، وقريب عهدهم بالأحجار، والأوثان والأصنام، وربما سرى إلى بعض النفوس، أو وقع فيها شيء من تسويل الشيطان، فأراد أن يزيل هذه الشبهة، وأنه حجر لا يضر ولا ينفع، وإنما رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبله فقبلناه، فأحال على أن الأمر تعبدي، وأنه ليس فيه حكمة معقولة، ولا شك أن تقبيل الحجر تعظيم له وإكرام له؛ لأنه حجر ليس كالأحجار.
ولله -عز وجل- أن يخص من الأعيان، والأزمان والشهور ما شاء بشيء من فضله، فقد خص هذا الحجر بهذا الفضل، وجاء فيه ما جاء من مسه وتقبيله، وقد جاء في الحجر الأسود والركن اليماني، أنهما يحطان الخطايا حطا، وورد أنهما ياقوتتان من ياقوت الجنة، نزلا وهما أشد بياض من الثلج، فسودتهما خطايا بني آدم، وجاء في الخبر: الحجر الأسود من الجنة.
وهي أخبار في بعض إسنادها ضعف، لكن بمجموع طرقها تثبت وتكون قوية، وهذه الأخبار تدل على هذا المعنى، وأن هذا الحجر له فضله وله ميزته، وفيه أنه كما قال -رضي الله عنه-: أنه لا يضر ولا ينفع، إنما رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل هذا، ولا شك أن الحكمة إن ظهرت فالحمد لله، إن لم تظهر فليس علينا إلا بتسليم.
والشيء قد تظهر حكمته على جهة الإجمال والتفصيل، في بعض أنواع العبادات، وبعض أنواع الشرائع مما شرع الله، في أنواع البيوع والمعاملات، وما شرع في الأمور المتعلقة بالنكاح، وما جاء من الأدلة الدالة على بعض أعمال الخير والبر كالصلة، وما أشبه ذلك، هذا حكمها ظاهرة وواضحة، في إشاعة الخير بين الناس.
وهنالك أشياء لا تظهر حكمتها على الإجمال، ولا تظهر حكمتها على التفصيل، كالصلاة مثلا، وربما بعض مسائل الحج، وهنالك أشياء لا تظهر حكمتها لا إجمالا، ولا تفصيلا، ليس المقام إلا مقام التسليم.
وإن كان الحج كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: « إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله »(2) وهكذا مثلا السعي بين الصفا والمروة، وما جاء في معناه، فالمقصود أن هذه؛ لأن أم إسماعيل سعت بينهما، في ذلك المكان الذي كان فيه وقته موحشا منفردا، فسعت حتى خرج لها الماء، فسعينا كما سعت -رضي الله عنها ورحمها-، فهذه أشياء ربما ظهرت فيها بعض الحكم، فتكون خيرا على خير، وربما لا تظهر الحكمة، فليس لك إلا التسليم، ومن كان لا يستجيب، ولا يطيع الله إلا إذا ظهرت الحكمة، فهو في الحقيقة ليس متعبدا، ليس عبد الله، إنما هو عبد لعقله.
الواجب أنه يكون عبد الله، يستسلم ومن كان يقول: أنا أريد الحكمة في كل شيء، فهو ليس عبدا لله، عبدا لعقله، فهو إن ظهر في عقله حكمة استجاب وأذعن، وإلا فلا يستجيب؛ لأنه لم يظهر لعقله شيء من هذا، وهذا جعل عقله إلها وطاغوتا، يقوده إلى ما تظهر له الحكمة في زعمه وظنه، وهو ربما كانت هذه الحكمة، التي ظهرت له، أو هذا المعنى الذي ظهر قد يكون معنى باطنا، فيتعبد عقله، ويكون المعنى الذي ظهر له الذي تعبد به، معنى باطلا، وهذا من شؤم الإعراض عن هديه -عليه الصلاة والسلام-، وليس معنى عدم طلب الحكم، لا، لكن المشروع عدم التكلف في استخراجها.
(1) البخاري : الحج (1597) , ومسلم : الحج (1270) , والترمذي : الحج (860) , والنسائي : مناسك الحج (2938) , وأبو داود : المناسك (1873) , وابن ماجه : المناسك (2943) , ومالك : الحج (824) , والدارمي : المناسك (1864). (2) الترمذي : الحج (902) , وأبو داود : المناسك (1888) , وأحمد (6/75) , والدارمي : المناسك (1853). |