كتاب الطهارة
أقسام المياه
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: كتاب الطهارة المياه ثلاثة:
الأول: طهور وهو الباقي على خلقته، ومنه مكروه كمتغير بغير ممازج ومحرم لا يرفع الحدث ويزيل الخبث، وهو المغصوب، وغير بئر الناقة من ثمود.
الثاني: طاهر لا يرفع الحدث، ولا يزيل الخبث، وهو المتغير بممازج طاهر، ومنه يسير مستعمل في رفع حدث.
الثالث: نجس، يحرم استعماله مطلقا، وهو ما تغير بنجاسة في غير محل تطهير، أو لاقها في غيره وهو يسير، والجاري كالراكد، والكثير قلتان، وهما مائة رطل، وسبعة أرطال، وسُبع رطل بالدمشقي، واليسير ما دونهما .
نعم ، سمعنا أنه جعل المياه ثلاثة، وهذا اختيار كثير من العلماء، أكثر الفقهاء قسموها إلى ثلاثة، وذهب كثير من المحققين إلى أن المياه قسمان: طهور ونجس، وأن الحد الفاصل بينهما هو التغير بالنجاسة.
والذين قسموها إلى ثلاثة عرّفوا الأول بأنه الباقي على خلقته كمياه الآبار والأنهار والأمطار والبحار، هذه هي الباقي على خلقته، يقولون: ومنه مكروه، كالذي تغير بغير ممازج، الممازج هو الذي يخالط الشيء، يختلط بالماء ولا يمكن تصفيته منه، فإذا كان غير ممازج فإنه مكروه، مع كونه طهورا.
إذا صُب عليه لبن فإن يمازجه ولا يمكن تخليصه منه، وإذا صب عليه دهن فإنه لا يمازجه، بل يطفو فوقه، يمكن تصفيته، فيريد بغير الممازج مثل الدهن والزيت والكافور ونحوها.
يقول: إذا تغير بهذه الأشياء فإنه طهور، ولكنه مكروه؛ لأنه قد يظهر رائحته، وقد يكون محرما لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث، أو يزيل الخبث ولا يرفع الحدث، وهو المغصوب.
المغصوب اختلف فيه هل يرفع الحدث أم لا ؟.
والصحيح أنه يرفع الحدث ويزيل الخبث؛ وذلك لأنه يستعمل في هذه الأعضاء فينظفها.
نقول: إن الغاصب آثم ومذنب، ولكن لا نقول: بطل وضوءه إذا توضأ بهذا الماء المغصوب. بل وضوءه صحيح، وإذا صلى في أرض مغصوبة فصلاته صحيحة، لا يؤمر بالإعادة، ولكنه آثم بسبب الغصب.
فننتبه إلى مثل هذا: أن المغصوب يرفع الحدث مع كون صاحبه آثما باستعماله، نقول: أنت آثم إن شربته، وإن أرقته، وإن توضأت به، وإن غسلت به إناء، وإن غسلت به نجاسة. فأنت آثم، ولكن لا تبطل طهارتك، فالإثم هاهنا بالغصب، إلا إذا كان مضطرا، ومنعه صاحبه بغير حق، فإن له أن يغصبه، أن ينقذ نفسه إذا كان مضطرا إلى شرب، يُخشى عليه الموت عطشا، فله أن يغصبه بقيمته.
قوله: "وغير بئر الناقة من ديار ثمود": ديار ثمود هي التي تعرف الآن مدائن صالح، ذهب كثير من العلماء إلى أن الآبار كلها يتوضأ بها إلا بئر الناقة، واستدلوا بأنه -صلى الله عليه وسلم- لما وردوها نهاهم أن يشربوا منها، والذين عجنوا من تلك الآبار علفوا نواضحهم ودوابهم بذلك العجين، والذين ارتووا أراقوا ما ارتووا.
ثم إن بعض العلماء قال: إن هذا من باب الزجر؛ ولذلك قال: « فيحل بكم ما حل بهم »(1) والصحيح أن الحدث يرتفع بها أصغر أو أكبر، سواء من بئر الناقة أو غيرها، وإنما من باب الزجر.
أما الطاهر الذي عندهم طاهر غير مطهر، لا يرفع الحدث، ولا يزيل النجس، فهو المتغير بممازج، عرفنا الممازج وهو المخالط، فإذا صُب عليه لبن، أو صُب عليه مرق، أو صُب عليه حبر، فإنه ممازج، يعني مثل هذا لا يرفع الحدث.
لكن إذا قيل: إن المياه قسمان. فكيف نسمي هذا؟ ما نسميه ماء؛ لأنه انتقل اسمه؛ نقول: هذا مرق، فلا يسمى ماء، أو نقول: هذا لبن إذا رأيناه أبيض، أو نقول: هذا شاي، أو قهوة، نقول: هو طاهر في نفسه، ولكن لا يسمى ماء.
والوضوء إنما يكون من ماء، قال تعالى: ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ﴾(2) ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾(3) فعلى هذا لا يدخل في اسم الماء؛ لأنه تغير بممازجه.
ثم اختلف في المستعمل، إذا -مثلا- توضأت، وجمعت الماء الذي مر على جسدك في طست، فهل هذا الماء الذي تَصابَّ من أعضائك طهور أو طاهر؟.
يقولون: إنه غير طهور.
الصحيح أنه طهور، ولكن لا يُشرع أن يُتوضأ به، ولا أن يُغتسل به، لأنه قد رُفع به حدث، فلا يُرفع به حدث آخر، ولأنه لو كان يستعمل مرة ثانية ما فرط الصحابة والنبي -صلى الله عليه وسلم- بإتلافه، يتوضئون ويتركون الماء، الأعضاء، ينصب على الأرض، وتشربه الأرض، فلو كان يُنتفع به مرة ثانية لتلقوه، ولتلقفوه، وبكل حال فالماء المستعمل لا يُرفع به حدث آخر، ولو كان طهورا.
الثالث: النجس الذي يحرم استعماله، تعريفه: أنه ما تغير بنجاسة في غير محل تطهير أو لاقاها.
يقول: "إذا تغير بنجاسة" التغير يكون بأحد أوصافه: اللون، أو الريح، أو الطعم، ورد في حديثٍ، في حديث بئر بضاعة: « الماء طهور لا ينجسه شيء »(4) في رواية ضعيفة: « إلا ما تغير طعمه أو ريحه أو لونه بنجاسة تحدث فيه »(1) .
ذكر هذه الرواية في بلوغ المرام، وضعفها كثير من العلماء، من حديث أبي أمامة وغيره، ولكن يقول الإمام أحمد: العمل عليها؛ وذلك لأن الميتة نجسة، فإذا ظهر أثر الميتة في الماء فإنه ينجس.
وكذلك الدم نجس، والبول نجس، فإذا ظهر أثر البول أو الدم أو الرجيع في هذا الماء لونا أو ريحا أو طعما فإنه ينجس، لا يجوز استعماله.
وأما إذا لاقاها في محل التطهير، صورة ذلك: غسل نجاسة الكلب، تُغسل سبعا، محل التطهير آخر غسلة، فإذا كان لآخر غسلة فإن المكان قد طهر، فالماء الذي ينفصل عنه في آخر غسلة يعتبر طاهرا، وكذلك الثوب إذا كان به نجاسة، فالغسلة الأخيرة التي يكون طاهرا بعدها، الماء الذي ينفصل يعتبر طاهرا.
يقول: "والجاري كالراكد" إذا كان نجسا، عليه أثر النجاسة، فلا فرق بين كونه يجري أو كونه راكدا.
ثم إن الفقهاء قسموا الماء إلى يسير وكثير، وحددوا اليسير بأنه القلتان فأقل، وأن ما فوق القلتين أو ما بلغ القلتين هو الكثير، وقالوا: القلتان هي الحد الأعلى لحمل النجاسة، فإذا كان الماء دون القلتين فوقعت فيه نجاسة -ولو يسيرة ولم يتغير- فإنه يعتبر نجسا، وإذا كان كثيرا فلا ينجس إلا بالتغير.
هذا هو كلامهم، فيقولون مثلا: إذا كان الماء دون القلتين -يعني قِربتين أو ثلاث قرب- وقع فيه عظم ميتة مثلا فإنه ينجس، أو وقع فيه قطرات بول أو دم، ولكنها لم تظهر، ولم يظهر أثرها، فإنه يعتبر نجسا ويستدلون بحديث القلتين: « إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث »(5) أو لم ينجس، مفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، فيظهر أثر النجاسة فيه، فلا يُتوضأ به.
ثم قدروا القلتين، قدروهما بخمس قرب، وقدروهما بمائة رطل، وسبعة أرطال، وسبع رطل بالدمشقي، والرطل ميزان كان معروفا عندهم.
فالصحيح على هذا، الصحيح القول بأن الماء قليله وكثيره طهور حتى يظهر أثر النجاسة فيه، وأنه لا فرق بين القلتين، وما فوق القلتين، وما دون القلتين، ولا فرق بين القليل والكثير، وأن الحد الفاصل هو التغير، فإذا ظهر أثر النجاسة طعما أو لونا أو ريحا فإنه نجس.
(1) (2) سورة النساء (سورة رقم: 4)؛ آية رقم:43 (3) سورة الفرقان (سورة رقم: 25)؛ آية رقم:48 (4) الترمذي : الطهارة (66) ، وأبو داود : الطهارة (66). (5) الترمذي : الطهارة (67) ، وابن ماجه : الطهارة وسننها (517) ، والدارمي : الطهارة (731). |