فصل في صلاة القصر والجمع
فصل: ويسن قصر الرباعية في سفر طويل مباح، ويقضي صلاة سفر في حضر وعكسه تامة، ومن نوى إقامة مطلقة بموضع أو أكثر من أربعة أيام أو ائتم بمقيم أتم، وإن حبس ظلما أو لم ينو إقامة قصر أبدا.
ويباح له الجمع بين الظهرين والعشائين بوقت إحداهما، ولمريض ونحوه يلحقه بتركه مشقة، وبين العشائين فقط لمطر ونحوه، يبل الثوب وتوجد معه مشقة، ولوحل، وريح شديدة باردة لا باردة فقط إلا بليلة مظلمة.
والأفضل فعل الأرفق، والأفضل فعل الأرفق من تقديم أو تأخير، وكره فعله في بيته ونحوه بلا ضرورة، ويبطل جمع تقديم براتبة بينهما أو تفريق بأكثر من وضوء خفيف وإقامة.
عندنا صلاة السفر فيها كلام كثير سيما في هذه الأزمنة، هل القصر سنة أو رخصة ؟.
فإذا قيل: إنه رخصة، فإن الأفضل الإتمام، وقيل إنه سنة فإن الأفضل القصر مع جواز الإتمام.
الأكثرون على أنه عزيمة، وأنه سنة عزيمة، وذلك لأنه هو الذي داوم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وذهب كثير من العلماء إلى أنه رخصة كسائر الرخص والرخصة، إنما تعهد عند الحاجة، فإذا كان هناك حاجة فإن فعلها أفضل، وإذا لم يكن هناك مشقة ولا حاجة ولا ضرورة، فإن تركها أفضل .
فنقول أولا: السفر مظنة المشقة سيما في الأزمنة القديمة ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: « السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وراحته، فإذا قضى نهمته فليسرع الفيئة»(1) حقيقة أن السفر في تلك الأزمنة قطعة من العذاب كان المسافرون يبقون في السفر شهرا وأشهرا وسنين، وكانوا أيضا يلاقون مشقة، حيث إنهم يمشون على أقدامهم عشر ساعات أو أكثر، وإذا ركبوا ركبوا على ظهر البعير، الشمس تصهرهم أماما أو خلفا والجلسة غير مريحة، يجلس على ظهر قتب أو على ظهر الرحل جلسة غير مطمئنة، يعني: قد يكون مشيه أسهل عليه من الركوب يبقى على ذلك -مثلا- مدة خمس ساعات، وهو راكب أو أكثر أو أقل فكان السفر مشقة فجاءت الرخص في الأربع:
الرخصة الأولى: الفطر لقوله تعالى: ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾(2) ذكر العلة قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(3) .
الرخصة الثانية: قصر الرباعية يعني: أن الصلاة على المقيمين أربع، فتقصر للمسافر وتكون ركعتين تخفيفا عليه.
الرخصة الثالثة: الجمع أن يجمع بين الظهرين في وقت إحداهما وكذا بين العشاءين لمشقة النزول.
الرخصة الرابعة: الزيادة في مدة المسح إذا كان يمسح على خفيه، فهذه الرخص تختص بالسفر إن كانوا في سفر طويل.
الطويل حددوه بيومين، ويمكن أن يقال: يوم وليلة أكثرهم حددوه بأنه مسيرة يومين، فإذا كان -مثلا- أقل من يومين فليس بطويل ولم يحددوه بالمساحة إلا لأجل أنها تستغرق يومين المساحة التي هي -مثلا- ستة عشر فرسخا أربعة برد ثمانية وأربعين ميلا، إذا نظروا فيها، وإذا هي مسيرة أربع وعشرين ساعة، كأن المسافر يسير اثنا عشر، ثم يريح نفسه بالليل اثنا عشر مسيرة أربع وعشرين ساعة، فهذا هو السفر الذي تقصر فيه الصلاة مسيرة ستة عشر فرسخا، ولكنها لا تقطع إلا في اثني عشر ساعة لأن الفرسخ ثلاثة أميال، فتكون ثمانية وأربعين ميلا .
والميل مسيرة نصف ساعة اشترطوا أن يكون السفر مباحا، فإذا كان السفر قطع طريق، فليس في سفر ولا تصح صلاة القصر فيه.
وذكرنا أنه إذا كان لعذر جاز ذلك، ثم في هذه الأزمنة يكثر التساهل، الذين -مثلا- يسافرون ساعتين أو نصف يوم نرى أن هذا ليس بسفر إذا كان -مثلا- يذهب في أول النهار، ثم يرجع في الليل فلا يسمى سفرا.
اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر أن السفر يحدد بالزمان لا بالمساحة فهو يقول لو أن إنسانا قطع مسافة طويلة، لا تقطع إلا في يومين، ورجع في يومه فلا يقصر ولا يترخص، ولو قطع مسافة قليلة في زمن طويل، فإنه يترخص فجعل العلة هي طول الزمان ولم يكن في زمانه أسرع من الخيل فضرب بها -مثلا- فقال: لو ركب إنسان فرسا سابقا وقطع مسافة لا تقطع إلا في يومين، ثم رجع في يومه فلا يترخص .
جعل العبرة بالزمان هكذا تجدون كلامه في المجلد الرابع والعشرين في رسالة طويلة لأحكام السفر، وقد لخص كلامه أيضا الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته على الروض، فاختار أيضا أو نقل اختياره أن السفر يقدر بالزمان فعلى هذا -مثلا- لو أن إنسانا خرج عن الرياض ثلاثين كيلو وطال مقامه جلس هناك -مثلا- يومين، فله أن يترخص، ولو وصل -مثلا- إلى القصيم، ورجع في يومه فلا يترخص نظرا إلى الزمان، وكذلك لو سافر في الطائرة وصل -مثلا- إلى جدة، ورجع في يومه فلا يترخص، هذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام، وهو نظر إلى العلة، وهو أن العلة هي يعني: الزمان الذي يغيب فيه عن أهله .
يقول: الإنسان -مثلا- إذا غاب -مثلا- نصف يوم، ولو وصل إلى أطراف المملكة، ما يفقده الناس، ولا يأتون يسلمون عليه، ولا يأتون يهنئونه بسلامته من السفر، ولا يظنون أنه سافر بخلاف ما إذا غاب يومين أو ثلاثة أيام، ولو كانت مسافة عشرين أو ثلاثين كيلو، فإنهم يفقدونه ويأتون إليه للسلام عليه، ويهنئونه، فهذا هو العذر، هذا هو الأقرب أن السفر لا يقدر بالمساحات، بل يقدر بالزمان، يقول: من قضى صلاة سفر في حضر، فإنه يقضيها تامة -مثلا- إذا مرت عليه صلاة الظهر، وهو في السفر وجاء إلى بلده وقت العصر، أراد أن يصلي الظهر يصليها تامة؛ لأن السفر قد انقضى .
يتساهل بعض الناس إذا أقبلوا على الرياض -مثلا- دخل عليهم وقت الظهر -مثلا- وبينهم وبين البلد ساعة صلوا الظهر والعصر ركعتين ركعتين، ثم جاءوا والعصر لم يدخل وقته، فقالوا: قد صلينا قد اقتفينا الرخصة في الصلاة، نقول: إنكم أصبحتم من أهل الأربع صلاة العصر تلزمكم أربعا، أصبحتم مطالبين بها فلا تسقط عنكم، وكذلك العشاءين إذا أقبل … بعضهم إلى الرياض -مثلا- بينه وبينها -مثلا- ثلاثين كيلو …صلى المغرب والعشاء وقصر العشاء، ثم يجيء الناس ليصلوا العشاء قد أذن أو لم يؤذن، نقول لهم: عليكم صلاة العشاء أربعة، هذا هو الراجح، ولا يرخص، فهناك من رخص، لكن الإنسان يحتاط للصلاة .
لو أن إنسانا أذن عليه أذن وقت الظهر، وهو في البلد ثم خرج قبل أن يصلي أراد أن يصليها بعد ما خرج من البلد، يصليها أربعا؛ لأنها لزمته أربعا، وكذا -مثلا- لو دخلت وأخرها، وهو تعِب ولم يخرج -مثلا- للساعة ثنتين، ثم صلاها في الطريق يصليها أربعا، ثم من نوى إقامة مطلقة بموضع أو نوى أكثر من أربعة أيام، أو ائتم بمقيم لزمه الإتمام، هذا هو المشهور عند الفقهاء أنه إذا نوى إقامة من غير تحديد، فإنه يتم وإذا نوى أربعة أيام، فإنه يتم، وإذا ائتم صلى خلف مقيم، فإنه يتم؛ وذلك لأنه يعتبر لا فرق بينه وبين المقيمين إذا -مثلا- جاء إلى بلد كالرياض مكة جدة -مثلا- الدمام بريدة، أو نحوها من هذه المدن، واستقر، إما في فندق، وإما في شقة -مثلا- استأجرها أو نحو ذلك، وتمتع بما يتمتع به المقيمون .
يعني: عنده الكهرباء، وعنده الفرش وعنده السرر وعنده الطعام يصلح له -مثلا- وعنده السيارات التي تنقله إلى ما يريد، وليس بينه وبين المقيمين فرق، فكيف مع ذلك تسقط عنه صلاة الجماعة، وكيف مع ذلك يقصر. هل يقال: إن هذا على سفر، ليس هذا سفرا، مقيم مع المقيمين، نقول: عليه الإتمام أما إذا لم ينو إقامة محددة، ولم يستقر في البلد، فإن له القصر ولو طالت المدة، فيعتذرون عن إقامة النبي -صلى الله عليه وسلم- زمن الفتح سنة الفتح ستة عشر يوما، أنه ما عزم على الإقامة لم يكن عازما على الإقامة، بل يتهيأ للسفر اليوم غدا بعد غد، فكان ذلك مسببا لبقائه على أن يقصر.
وقيل: إن عذره كونه على أهبة السفر، أو كونه كمسافر؛ لأنه ما استقر في البلد ما دخل في البيوت، ولا استقر الصحابة -مثلا- في المساكن، ولا في بيوت المدر، وبيوت الطين، إنما منازلهم تحت ظل الشجر، أو يبني أحدهم، أو يبني جماعة قبة صغيرة أو خيمة صغيرة، أو بيتا من شعر يستظلون به، أو يستظلون في الكهوف، فهم في حكم المسافر بخلاف الذين يستقرون في داخل البلد، سواء استقر -مثلا- وسكن عند أخ له أو قريب له أو استأجر -مثلا- مكانا في المدن المشهورة، ونحوها، يمكن أن يقال: إن القرى ليس فيها فنادق -مثلا- وليس فيها شقق تؤجر، وأن الذي يأتي إليها لا يستقر فيها، إنما ينام في سيارته -مثلا- أو ينزل -مثلا- خارج البلد في تحت شجرة، أو في عريش أو نحو ذلك، فيمكن هذا يقصر، ولو طالت المدة.
أما إذا عزم على الإقامة الطويلة، فإنه لا يقصر حتى ولو كان يسكن في فنادق أو في خيام أو نحو ذلك هناك -مثلا- بعض الجنود الذين يستقرون في أطراف المملكة، ولو كانوا مرابطين، ولكن يعلمون أنهم يبقون في هذا أشهرا، وربما نصف السنة، أو أكثر، فمثل: هؤلاء لا يقصرون؛ لأنهم ليسوا على سفر، يلزمهم أن يتموا الصلاة، ومثلهم أيضا الطالب الذي يأتي ويقيم هنا خمسة أيام يدرس، سواء كان سكنه بالجامعة أو خارجها.
نقول: إنك لست مسافرا، لست على سفر، بل يلزمك الإتمام، وكذلك الذي لهم -مثلا- ما يسمى باستراحات أو بساتين تبعد عن الرياض -مثلا- تسعين كيلو أو مائة كيلو، يذهبون إليها -مثلا- خميس وجمعة، ولهم هناك بيوت، ولهم مساكن مثل: هؤلاء لا يقال: إنهم مسافرون، ولو غابوا عن البلد يوما وليلة أو يومين؛ لأنهم في ملكهم، وفي بيوتهم، وفي … مقعد بلادهم، ولو كانوا لا يقيمون فيها إلا يومين، فليس لهم رخصة في أن يقصروا.
يمكن أن يقال: لهم رخصة في القصر إذا جاءهم الوقت وهم في الطريق، فأما إذا وصلوا، فإنهم مقيمون، سئل ابن عباس: « ما للمسافر إذا صلى وحده قصر، وإذا صلى مع المقيمين أتم، فقال: تلك السنة»(4) ؛ ولأنه إذا صلى مع المقيمين، فإنه يلزمه متابعة الإمام، فلا يخالف الإمام، وأما إذا صلى المسافر بالمقيمين، فإن له القصر كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي بمكة قصرا، فإذا صلى ركعتين وسلم أمر الذين يصلون معه من أهل مكة بالإتمام، وقال: « أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر»(5) أما إذا حبس ظلما، وهو لم ينو إقامة، فإنه يقصر أبدا إذا حبس -مثلا- ظلما فهو معذور يعني: منع من السفر، ولم يتمكن، فإنه مظلوم فله أن يقصر. وكذلك الذي ما نوى إقامة، إنما هو متردد، ولكنه لم يستقر.
أما الجمع، الجمع بين الظهرين، والعشاءين في وقت أحدهما للمسافر، والصحيح أنه خاص بالسائر الذي على ظهر الطريق، فأما النازل فإنه ولو قصر لا يمنع، فمثلا: الحجاج في منى يقصرون، ولا يجمعون، وذلك لأنهم لا مشقة عليهم في الصلاة في كل وقت، يجمعون الظهرين في عرفة والعشاءين في مزدلفة؛ لأنها لها سبب، وذلك لأن جمعهم بعرفة لأجل أن يطول الموقف، وجمعهم في مزدلفة لأنهم يتأخرون، فلا يصلون إليها إلا بعد أن يمضي يدخل وقت العشاء .
المسافر يفعل الأرفق به إذا جمع إذا كان -مثلا- جادا في الطريق يتوجه -مثلا- من هنا إلى مكة، وربما إلى أبعد من مكة إلى جيزان -مثلا- يواصل الطريق، دخل عليه وقت الظهر، وهو قد ركب الآن أحب أن يؤخرها حتى ينزل وقت العصر، فيصليهما جميعا، فهو جائز أو دخل عليه وقت الظهر، وهو نازل ويحب أن يواصل السير إلى المغرب قدم العصر وصلاها مع الظهر واصل السير حتى ينزل ـ إلى المغرب ـ للمغرب فيجمع في وقت إحداهما .
كذلك المريض الذي يلحقه مشقة، إذا كان يلحقه مشقة. .. في التوقيت، فله أن يجمع في وقت إحداهما، ويفعل الأرفق به، أما الجمع للمطر، فالصحيح أنه لا يجمع إلا العشاءين؛ لأنها في وقت ظلمة عادة؛ ولأن الأسواق تمتلئ بالطين، والذين يأتون إلى المساجد يتخبطون في الطين ويخوضونه -مثلا- إلى نصف الساق، ويشق عليهم، والطرق مظلمة، والشوارع مليئة بالطين وبالدحض والمذلة، فكانوا يجمعون بين العشاءين .
أما في النهار فلا يجمع؛ وذلك لأنه لا مشقة؛ ولأنهم يبصرون الطريق، وليس هناك مشقة برد، ولا مشقة دحض أو مذلة، الذي يمشي يستطيع أن يتخلص إذا كان ذلك المطر غزيرا، بحيث يبل الثياب وتوجد معه مشقة وكذلك الوحل، الوحل هو الطين المتجمع بالأسواق بحيث يخوضونه -مثلا- إلى نصف الساق، ولا يستطيعون أن يجدوا طريقا غيره.
وكذلك الريح الشديدة الباردة، لا بد أن تكون شديدة باردة، يجوز أن يجمع فيها بين العشاءين، أما إذا كانت باردة فقط، فلا يجمع إلا إذا كانت الليلة مظلمة حالكة الظلام الجمع يفعل فيه الأرفق به جمع التقديم أو التأخير، يفعل ما هو الأرفق أما إذا كان يصلي في بيته، فلا حاجة إلى الجمع إلا للضرورة كالمريض ونحوه، الجمع لا بد أن يجمع بينهما بلا فاصل، فلو صلى بينهما سنة بطل الجمع إذا أتى بينهما براتبة بطل الجمع.
وكذلك إذا فرق بينهما إذا صلى -مثلا- الظهر ثم اشتغل، ثم أراد أن يصلي العصر بطل الجمع، لا بد أن الجمع يكونان متواليتين، لكن لو انتقض وضوءه -مثلا- توضأ وضوءا خفيفا، فلا بأس، وكذلك لو فصل بينهما بإقامة.
(1) البخاري : الحج (1804) , ومسلم : الإمارة (1927) , وابن ماجه : المناسك (2882) , وأحمد (2/496) , ومالك : الجامع (1835) , والدارمي : الاستئذان (2670). (2) سورة البقرة: 184 (3) سورة البقرة: 185 (4) (5) مالك : النداء للصلاة (349). |