كتاب الجنائز
ما ينبغي للمسلم من لدن المرض إلى الوفاة
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين وصلى لله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: كتاب الجنائز: ترك الدواء أفضل، وسن استعداد للموت، وإكثار من ذكره، وعيادة مسلم غير مبتدع، وتذكيره التوبة والوصية، فإذا نزل به سن تعاهد بل حلقه بماء أو شراب وتندية شفتيه وتلقينه: لا إله إلا الله مرة، ولا يزاد على ثلاث إلا أن يتكلم فيعاد برفق، وقراءة الفاتحة ويس عنده، وتوجيهه إلى القبلة، وإذا مات تغميض عينيه وشد لحييه، وتليين مفاصله، وخلع ثيابه، وستره بثوب ووضع حديدة أو نحوها على بطنه، وجعله على سرير غسله متوجها منحدرا رجليه وإسراع تجهيزه ويجب في نحو تفريق وصيته وقضاء دينه.
بسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ألحق كتاب الجنائز بالصلاة؛ لأن أهم ما يعمل مع الميت الصلاة عليه، واسمها صلاة، ولو لم يمكن فيها ركوع وسجود؛ لأن فيها قيام وقراءة وتكبيرات وتحريم وتسليم، فأشبهت الصلاة؛ ولأنه يشترط لها الطهارة واستقبال القبلة وستر العورة ونحو ذلك، فأصبحت من جنس الصلاة، ولما كان كذلك ذكروا هذا الكتاب كتاب الجنائز بعد كتاب الصلاة، وذكروا ما يتعلق بالجنائز وإن لم يكن من جنس الصلاة.
فأولا: ترك التداوي هل هو أفضل أم فعلها؟ يقولون: من كان قوي القلب وقوي الصبر، ويأمن أن لا يفجع، ولا يشتكي ولا يتضجر ويـتألم ويتأوه، يثق من نفسه بأنه يرضى بقضاء الله وبقدره فإن ترك الدواء أفضل توكلا على الله -تعالى- كما في حديث سبعين ألفا « لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون »(1) ومع ذلك فإن فعل الدواء جائز ودليله قوله -صلى الله عليه وسلم-: « تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام »(2) .
وقوله: « ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله »(3) وفى حديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: « الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم وكية نار ولعقة عسل »(4) يعني أن فيها أو أن هذه أقرب إلى الشفاء، ولا ينفي وجود الشفاء في غيرها، فهو دليل على إباحة التداوي، فالتداوي علاج الأمراض مباح، وإذا كان الإنسان يريد التوكل فإنه يتداوى وهو مع ذلك معتقد أن ربه -سبحانه- هو الذي أنزل الداء، وهو الذي أنزل الدواء، وهو الذي أمر بالعلاج وأباحه كما أمر بالغذاء، الغذاء الأكل والشرب لدفع ألم الجوع والعطش وما أشبه ذلك، فعلى هذا يكون الدواء مباحا.
ولا ينافى التوكل إذا علم بأن الله -تعالى- مسبب الأسباب. يقول: يسن الاستعداد للموت: الاستعداد له هو عمل الصالحات،الأعمال الصالحة، كان كثير من السلف يعملون من الأعمال الصالحة ما لا مزيد عليه حتى لو قيل لأحدهم: إنك تموت الليلة أو غدا لن يكون هناك ما يزيد به في عمله؛ لأنه عامل بكل ما يستطيعه وما يقدر عليه، فالاستعداد له هو أن يعمل الأعمال الصالحة ويترك السيئات ويتوب دائما ويجدد التوبة في صباح وفي كل مساء حتى إذا جاءه الموت.
إذا هو مستعد لا يقول: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ﴾(5) .
يسن الإكثار من ذكره، وفي حديث صحيح عند الترمذي وغيره قال -صلى الله عليه وسلم-: « أكثروا ذكر هاذم اللذات »(6) هكذا ضبطوه بالذال « أكثروا ذكر هاذم اللذات »(6) يعني: مكدرها أي: أنه ما ذكر في قليل إلا كثره ولا في كثير إلا قلله، إذا أكثر من ذكره، فإن ذكره يزهده في الدنيا، ويزهده في الأمتعة والدنيا وما عليها ويرغبه في القناعة، يقنعه بما أعطاه الله ولو كان قليلا، وكذلك إذا كان ذا ثروة وذا أموال ونحوها، ثم تذكر الموت علم أنه ذاهب وتارك هذه الدنيا كلها وأنه ليس له إلا ما قدم فيحرص على أن يقدم.
تسن عيادة المسلم غير المبتدع:
تسن العيادة: هي زيارته في حال مرضه؛ لأنه محبوس قد حبسه المرض، فهو يحب من إخوانه وأصدقائه أن يعودوه، فإذا عادوه دعوا له وذكروه، وحثوه على الصبر، وحثوه على التوبة، وحثوه على الوصية، كتابة وصيته وما عنده، ونفثوا له في أجله، إذا زاروه فإنهم يقولون له: أبشر بالعافية وبالشفاء فإن فرج الله قريب وإن الله -تعالى- يثيبك على صبرك، وإن المؤمن مبتلى، « وإن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل »(7) « وأن الله إذا أحب قوما ابتلاهم »(8) .
زيارته في حال مرضه وحال احتباسه ففيها أجر كبير ورد فيها أحاديث كثيرة مذكورة في كتب الآداب.
ولا يسن زيارة مبتدع وصاحب البدعة سواء كانت بدعة اعتقادية، كالمعتزلي والرافضي والقبوري والمتصوف الغالي في التصوف ونحوهم، أو بدعة عملية، كالذين يبتدعون أعمالا زائدة على الشرع، مثل بدعة المولد وبدعة الرغائب، وما أشبهها،إذا كان ممن يرى هذه البدع، وأشدها ما يقرب من الشرك كبدعة المشركين الذين يغلون في الأموات ويدعونهم من دون الله فلا يجوز عيادتهم، وإذا زاره ونفث له في الأجل فإن ذلك لا يرد قدره ولا يغير شيئا، يقول له: سوف تشفى -إن شاء الله- ومثل ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد لما زاره: لعلك أن تشفى حتى ينفع الله بك قوما ويضر بك آخرين.
التذكير في التوبة: التوبة على الإنسان أن يجددها في كل صباح ومساء، فإن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
الوصية واجبة أن على الإنسان، إذا كان عنده شيء أن يبادر بكتابتها، وليس كتابة الوصية مقاربة لأجل أو مباعدة له، فيبادر بكتابة وصيته، ولو كان صحيحا قويا وفيها أحاديث.
فإذا نزل به سن تعاهد بل حلقه بماء أو شراب وتندية شفتيه، وذلك يسهل عليه الكلام إذا بل حلقه سهل عليه أن ينطق بالشهادة مثلا، كذلك إذا بلت شفتاه يسهل عليه أن يتكلم بما يريد أن يوصي به.
وتلقينه لا إله إلا الله مرة ولا يزاد على ثلاثة إلا أن يتكلم فيعاد تلقينه برفق، ثبت في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: « لقنوا موتاكم لا إله إلا الله »(9) ويراد بهم المحتضر الذي حضره الأجل، يلقن برفق حتى لا يضجر ويكرهها؛ لأنه في حالة شدة،في حالة النزع هو في حالة شدة وفي حالة ألم شديد فلا يشدد عليه، يلقن برفق يقال: قل: لا إله إلا الله أو يذكر عنده كلمة لا إله إلا الله ولا يكرر أكثر من ثلاث.
فإن تكلم بعدها يعاد تلقينه برفق ولا يكلف الشيء الذي لا يستطيعه وقراءة الفاتحة ويس عنده، أما سورة يس ورد فيها حديث مذكورة في السنن « اقرءوا على مواتكم يس »(10) استحب بعضهم قراءة الفاتحة ذكر ذلك في سبل السلام، واستحب أيضا بعضهم قراءة سورة الملك ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾(11) واستحب أيضا قراءة البقرة، ولكن لعل هذه وقائع دون أن يكون هناك نص كأنه وقع أن بعض الصحابة أو بعض العلماء أن قال اقرءوا عليه سورة البقرة، وآخر قال: اقرءوا الفاتحة وآخر قال: الملك.
ولكن النص ما ورد إلا في سورة يس، ولعل سبب اختيار يس ما فيها من البشارة مثل قوله -تعالى-: ﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾(12) ومثل قوله -تعالى-: ﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴾(13) فإن في هذا ما يقوي قلبه.
أما توجيهه إلى القبلة فهو أن يجعل على جنبه الأيمن ووجه إلى القبلة أيا كانت جهة القبلة، فإن شق ذلك فإنه يكون على ظهره ويرفع رأسه حتى يكون وجهه إلى القبلة وتكون رجلاه إلى جهة القبلة ليكون مقابل وجهه للقبلة، واختلف في حكم ذلك أنكره بعضهم كسعيد بن المسيب، واستحبه بعضهم كحذيفة حيث قال: "وجهوني" واستدلوا بحديث: « قبلتكم أحياء وأمواتا »(14) فهو مستحب.
وإذا مات يسن تغميض عينيه وشد لحييه وتليين مفاصله وخلع ثيابه وستره بثوب ووضع حديدة أو نحوها على بطنه، وجعله على سرير غسله متوجها منحدرا نحو رجليه.
تغميض عينيه: ورد فيه حديث أنه -عليه السلام- قال: « إن الروح إذا قبض تبعه البصر »(15) فيسن أن إذا رأوا أنه قد نزل به أن يغمض عينيه وذلك؛ لأنه إذا مات وهي مفتوحة بقيت مفتوحة دائما، وفي ذلك شيء من تشويه مظهره وصورته فيغمضها الذين يحضرون فيغمضونها.
وأما شد لحييه فمخافة أن يبقى فمه مفتوحا حالة غسله وحالة تجهيزه، فيشد حتى ينطبق فمه مع أسنانه.
وأما تليين مفاصله، فالحكمة في ذلك أن تلين عند الغسل وذلك بأن يمد يده، ثم يثنيها ويمد منكبه، ثم يثنيه، وهكذا يفعل بيده الأخرى، وكذلك أيضا رجليه بأن يقلب رجله يثنيها، ثم يمدها مرتين أو ثلاثا حتى تلين عند الغسل.
خلع ثيابه يعني: الثياب التي مات بها يسن أن تخلع ساعة ما يموت، ويستر برداء أو نحوه،ثوب يعني: كرداء يستره ذكروا « أنه -صلى الله عليه وسلم- لما مات ستروه بثوب حبرة »(16) وأما وضع الحديدة على بطنه يوضع على بطنه شيء ثقيل؛ لأنه عادة يربو وينتفخ، فتوضع هذه حتى لا ينتفخ بعد موته بل ترصه هذه الحديدة أو خشبة أو نحو ذلك، بعضهم يجعل عليه مصحف ولا أصل لذلك، ولو قالوا: إنه فيه البركة أو نحو ذلك، الأولى أن يتبع الدليل ولا دليل على استحباب وضع المصحف على بطنه.
وضعه على سرير غسله يعني: يبادر فيوضع على سرير غسله إذا تيسر ذلك، إذا تيسر بعد موته مباشرة أن يوضع على السرير الذي يغسل عليه، متوجها يعني موجها وجهه إلى القبلة، منحدرا نحو رجليه، يعني: يوضع أو يرفع جهة رأسه وتخفض جهة رجليه حتى إذا خرج منه شيء ينحدر ولا يلوث بقية بدنه.
يسن الإسراع في تجهيزه، ورد فيه قوله -صلى الله عليه وسلم- « لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله »(17) يعني: أن إبقائه عندهم بدون تجهيز وهو ميت لا فائدة فيه ليس له إلا أن يجهز ويدفن قبل أن يتغير وينتن؛ لأنه يسرع عادة إليه التغير فيبادرون بتجهيزه.
يستثنى من ذلك إذا مات فجأة مخافة أنها غِشية غلبت عليه، وأنه سوف يصحو ويفيق، فأما إذا تحقق بأنه مات وخرجت روحه فالإسراع في تجهيزه أولى.
كذلك الإسراع بتفريق وصيته وقضاء دينه يتعلق هذا بأوليائه،إنفاذ وصيته، إذا أوصى تنفذ وصيته سواء وصية مالية في ماله مثلا، أو وصية بإبلاغ شيء أو نحوه، كذلك الإسراع في إبراء ذمته من الدين ورد حديث « نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقْضَى »(18) فيسارعون في قضاء دينه حتى يريح بدنه من ذلك، ورد فيه حديث « أنه -صلى الله عليه وسلم- أوتي برحل فقال: هل عليه دين؟ قالوا: ديناران فقال: صلوا عليه فقال أبو قتادة: هما علي، فسأله بعد ذلك هل قضيتهما؟ قال: نعم. قال: الآن بردت عليه جلدته »(19) فيسارعون في قضاء دينه بقدر الاستطاعة، فإذا كان عليه دين وهم عاجزون فإنهم معذورون:
تجهيز الميت من فروض الكفاية، وتغسيله يلزم من علم بحاله فهو من فروض الكفاية، كذلك تكفينه وحمله والصلاة عليه ودفنه، كل هذه من فروض الكفاية لو تركوه وهم عالمون بذلك لأثموا، يعني: بسبب أنهم فرطوا في شيء واجب عليهم دينيا يأثم كل من علم بأنه دفن مثلا بلا غسل أو نحو ذلك، والجاهلون عليهم أن يتعلموا.
يقع كثيرا من البوادي أنهم يجهلون الحكم، فإذا مات الميت حفروا له حفرة كأنه جيفة حيوان ودفنوه فيها بدون تغسيل وبدون تكفين وبدون صلاة عليه، ولا شك أن هذا حرام على من يعلم الحكم وأن عليهم أن يتعلموا.
(1) البخاري : الطب (5705) , ومسلم : الإيمان (220) , والترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2446) , وأحمد (1/271). (2) البخاري : الطب (5678) , وابن ماجه : الطب (3439). (3) البخاري : الطب (5678) , وابن ماجه : الطب (3439). (4) البخاري : الطب (5683) , ومسلم : السلام (2205) , وأحمد (3/343). (5) سورة المنافقون: 10 - 11 (6) الترمذي : الزهد (2307) , والنسائي : الجنائز (1824) , وابن ماجه : الزهد (4258) , وأحمد (2/292). (7) الترمذي : الزهد (2398) , وابن ماجه : الفتن (4023) , وأحمد (1/180) , والدارمي : الرقاق (2783). (8) الترمذي : الزهد (2396). (9) مسلم : الجنائز (916) , والترمذي : الجنائز (976) , والنسائي : الجنائز (1826) , وأبو داود : الجنائز (3117) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1445) , وأحمد (3/3). (10) أبو داود : الجنائز (3121) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1448) , وأحمد (5/26). (11) سورة الملك: 1 (12) سورة يس: 26 (13) سورة يس: 55 (14) أبو داود : الوصايا (2874). (15) مسلم : الجنائز (920) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1454) , وأحمد (6/297). (16) البخاري : المغازي (4454) , والنسائي : الجنائز (1841). (17) أبو داود : الجنائز (3159). (18) الترمذي : الجنائز (1078) , وابن ماجه : الأحكام (2413) , وأحمد (2/440) , والدارمي : البيوع (2591). (19) النسائي : الجنائز (1962) , وأبو داود : البيوع (3343). |