زيارة القبور والتعزية
وسن لرجال زيارة قبر مسلم والقراءة عنده وما يخفف عنه، ولو بجعل جريدة رطبة في القبر، وقول زائر ومار به: « السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون، يرحم المستقدمين منكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية »(1) اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا، ولهم وتعزية المصاب بالميت سنة، ويجوز البكاء عليه وحرم ندب ونياحة وشق ثوب ولطم خد ونحوه .
زيارة القبور تختص بالرجال ولا تجوز للنساء: يسن للرجل زيارة القبور، قبور المسلمين، ويجوز أيضا قبور الكفار للعبرة. كان النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاهم عن ذلك في أول الأمر مخافة الغلو ومخافة الندب والنياحة، ثم بعد ذلك أذن لهم، وقال: « إنها تذكركم الآخرة »(2) أي تزهدكم الدنيا وترغبكم في الآخرة وتذكركم الموت وما بعده.
فالزيارة للقبور فيها مصلحتان: الدعاء للأموات، والترحم عليهم، هذا مطلوب تذكر الآخرة، والاعتبار هذا أيضا مطلوب، حُفِظَ عن أبي العتاهية أنه مَرَّ على القبور فقال:
ألا يــا عسـكر الأحياء *** هـذا عســكر المـوتـى
أجابـوا الـدعوة الصغرى *** وهـم منتظـروا الكـبرى
يحـثـون على الزاد ومـا *** زاد ســـوى التقــوى
يقـولـون لكــم جدوا *** فهــذا أخــر الدنيــا
هذا نهاية الدنيا، إن أهل الدنيا يكون مآلهم إلى ما آل إليه أولئك المقبورون الذين قد دُفِنُوا.
وأما زيارة النساء فلا تجوز؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: « لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج »(3) وثبت أيضا أنه « رأى نسوة يتبِعْنَ ميتا فقال: هل تدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا، قال: هل تحملن فيمن يحمل؟ قلن: لا. قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات »(4) وفي رواية « إنكن تفتنَّ الأحياء، وتُدِنَّ الأموات »(5) .
وروي أيضا أنه « رأى فاطمة جاءت من قِبَل البقيع فسألها، فقالت: أتيت إلي آل ذلك الميت فعزيتهم. فقال: لعلك بلغت معهم الكدا -أي طرف المقابر- قالت: معاذ الله، وقد سمعتك تقول ما تقول، فقال: لو بلغتِ الكدا ما رأيت الجنة حتى يراها جدُّ أبيك »(6) تشديد عظيم.
فهو دليل على أنه لا يجوز للنساء زيارة القبور، وذلك لقلة صبرهن، أو نحو ذلك، ولا عبرة لبعض المتأخرين الذين أخذوا يشددون ويقولون: إنه يجوز ويطرحون هذه الأدلة ويتمسكون بالحديث: « كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها »(7) فإن الخطاب للرجال.
أما القراءة عند القبور فلا تجوز؛ وذلك لأنه قد يتخذ وسيلة إلى الاعتقاد أن القراءة عند القبر أفضل منها بالمسجد، ثم يجر ذلك إلى الصلاة عند القبور، وأنها أفضل من الصلاة في المساجد، ثم إلي الغلو في الأموات، واتخاذ قبورهم مساجد، والصحيح أنه لا يجوز أن يتحرى القراءة عند القبر يعلق على هذه الجملة يقول: وما يخفف عنه ولو يجعل جريدة رطبة في القبر، والصحيح أن هذا أيضا لا يجوز.
النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما مر على قبرين يعذبان وغرز فيهما جريدتين هذا من خصائصه؛ لأن الله -تعالى- أطلعه على هذه. وأما غيره ليس له هذه الخصيصة فليس له أن يفعل ذلك، ولو كان ذلك لاشتهر عند السلف أنهم يغرزون في كل قبر جريدة خضراء.
فالصحيح أنه لا يجوز إنما يُدعَى له ويُتَرحَّم عليه ويسلم عليه بهذا السلام « السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون »(1) وفي رواية « السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم »(8) أو بما تيسر من السلام.
تسن تعزية المصابين بالميت ورد في حديث: « من عزَّى مصابا فله مثل أجره »(9) وإن كان فيه ضعف لكن هو بحاجة إلي تسليته وتعزيته وتخفيف مصيبته يأتي إليه المعزون فيترحمون على ميته، ويدعون له، ويحثونه على الصبر والتسلي. يجوز البكاء على الميت، ولا يجوز النحيب، ولا يجوز الزفير الشديد.
ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: « العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون »(10) ورد أيضا أنه بكى مرة عند بعض أصحابه فقال: « ألا تسمعون، إن الله لا يعذب بحزن قلب، ولا بد مع العين ولكن يعذب بهذا، أو يرحم: يعني اللسان »(11) .
فلذلك يحرم الندب والنياحة وشق الثوب ولطم الخدين، وما أشبه ذلك؛ لأنه من أمور الجاهلية.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية »(12) كان أهل الجاهلية إذا مات أحدهم. يلطم أحدهم خده، أو يضرب صدره، والمرأة تشق ثوبها، أو تشق جيبها ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- « برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة »(13) .
الصالقة:التي ترفع صوتها عند المصيبة. والحالقة: التي تحلق شعرها، أو تنتفه. والشاقة: التي تشق ثوبها، برأ منهم كما في هذا الحديث « ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية »(14) .
ودعوى الجاهلية: أنه إذا مات فيهم الميت أخذوا يندبونه بنداء كنداء الغائب، إما مثلا باسمه كأن يقولوا مثلا وا سعداه! - وا راشداه! وا زيداه! وا عمراه! وإما بقرابته كأن يقولوا: وا والداه!، وا أخواه!، وا أبواه! وا عماه! وإما بصيغة تتصل إليه منهم كأن يقولوا: وا مطعماه!، وا كاسياه!، وا كافلاه!، وا حافظاه!، وما أشبه ذلك؛ كل هذا من الندب الذي نهى عنه النبي-صلى الله عليه وسلم- لأنه تسخط لقدر الله -تعالى- وقضائه؛ ولأن ذلك لا يرد فائتا.
نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
(1) مسلم : الطهارة (249) , والنسائي : الطهارة (150) , وأبو داود : الجنائز (3237) , وابن ماجه : الزهد (4306) , وأحمد (2/300) , ومالك : الطهارة (60). (2) مسلم : الجنائز (976) , والنسائي : الجنائز (2034) , وأبو داود : الجنائز (3234) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1569) , وأحمد (2/441). (3) الترمذي : الصلاة (320) , والنسائي : الجنائز (2043) , وأبو داود : الجنائز (3236) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/337). (4) ابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1578). (5) (6) النسائي : الجنائز (1880) , وأحمد (2/168). (7) مسلم : الأضاحي (1977) , والنسائي : الجنائز (2033) , وأبو داود : الأشربة (3698) , وأحمد (5/359). (8) مسلم : الجنائز (974) , والنسائي : الجنائز (2037) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1546) , وأحمد (6/221). (9) الترمذي : الجنائز (1073) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1602). (10) البخاري : الجنائز (1303) , ومسلم : الفضائل (2315) , وأبو داود : الجنائز (3126) , وأحمد (3/194). (11) البخاري : الجنائز (1304) , ومسلم : الجنائز (924). (12) البخاري : الجنائز (1294) , ومسلم : الإيمان (103) , والترمذي : الجنائز (999) , والنسائي : الجنائز (1860) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1584) , وأحمد (1/456). (13) مسلم : الإيمان (104) , والنسائي : الجنائز (1867) , وأبو داود : الجنائز (3130) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1586) , وأحمد (4/397). (14) البخاري : الجنائز (1297) , ومسلم : الإيمان (103) , والترمذي : الجنائز (999) , والنسائي : الجنائز (1860) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1584) , وأحمد (1/465). |