الأعذار المبيحة للفطر
ومن أفطر لكبر، أو مرض لا يُرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكينا، وسُن الفطر لمريض يشق عليه، ومسافر يقصر، وإن أفطرت حامل، أو مرضع خوفا على أنفسهما قضتا فقط، أو على ولديهما مع الإطعام ممن يمون الولد، ومن أغمي عليه أو جن جميع النهار لم يصح صومه، ويقضي المغمي عليه.
الكبير أو المريض الذي لا يُرجى برؤه إذا أفطر، فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكينا؛ لأنه معذور في إفطاره، لا يستطيع الصيام؛ لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، فيلزم أولياءه أن يطعموا عنه.
اختلف فيما إذا كان قد ذهب عنه التمييز يعني خرف، إذا خرف مثلا فأصبح لا يعقل، ولا يفهم، ولا يميز، يقولون له: أمسك وصُمْ، فيقول: أمسكت ثم بعد ذلك يشرب أو يأكل، فأصبح كأنه أقل حالة من الطفل.
ففي هذه الحال من العلماء من يقول: يسقط عنه التكليف كالمجنون؛ لأنه فاقد العقل يرى الأكثرون على أنه يطعم عنه؛ لأنه لم يزل تحت ولايتهم؛ ولأنه قد تجاوز سن التكليف.
المريض الذي يشق عليه الصيام هل الأفضل له أن يفطر أو يصوم مع المشقة؟ الأفضل أن يفطر مع المشقة، فإنه رخصة، والله -تعالى- « يحب أن تؤتى رُخَصه »(1) فإذا كان الصوم يكلفه، فالفطر أفضل له، وكذلك المسافر الذي يقصر الصلاة. هل الأفضل له أن يفطر ويقضي؟ أو الأفضل له أن يصوم؟ وفي ذلك تفصيل.
نقول: إذا كان عليه مشقة في الصيام يلحقه كلفة في السفر ظمأ وجهد وجوع وتعب، بحيث أنه يسقط ويحتاج إلى من يخدمه، ومن يفرش له فراشه، ومن يرشه ومن يحمله، ففي هذه الحال الأفضل له الإطعام. الأفضل له الفطر، ولو مع ذلك صام وصبر على الكلفة أجزأه الصيام عن أيام رمضان، هذا قول الجمهور.
يعني: أن الأفضل له مع المشقة الإفطار، وأنه لو تكلف وتجشم وصام فإن ذلك يجزئه ويسقط عنه الفرض، ويستدل بحديث عن أبي الدرداء قال: « سافرنا في حر شديد حتى أحدنا ليجعل يده فوق رأسه من حر الشمس وما فينا صائم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن رواحة »(2) في هذه المشقة، وهذه الصعوبة صبر على الصوم.
وأما إذا لم يكن عليه مشقة؛ بل الصيام لا يكلفه ولا يعوقه عن حاجته يخدم نفسه ويقوم بشئونه، يصلح طعامه ويفرش فراشه؛ ويصلح مركبه، ولا يعوزه إلى غيره، ولا يحوجه إلى أن أحدا يخدمه ففي هذه الحال الصوم أفضل، وإن أفطر أجزئ جاز.
وفي حديث أنس قال: « كنا نسافر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم »(3) يرون أن مَن به قوة وقدرة فإنه يصوم.
وفي حديث جابر المشهور أنه كان في سفر يقول: « فمنا الصائم ومنا المفطر فنزلنا منزلا فسقط الصُوّام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ذهب المفطرون اليوم بالأجر »(4) ؛ وذلك لأن الصوام سقطوا تحت الظل لم يكن عندهم قدرة على أن يخدموا أنفسهم ولا أن يخدموا رفقتهم من شدة الجهد، ومن شدة الظمأ، ومن شدة التعب سقطوا.
ففي هذه الحال إذا كانوا بهذه الحال بحيث إنهم يسقطون إذا نزلوا منزلا، لا يستطيعون أن يخدموا أنفسهم فالفطر -والحال هذه- أفضل وعليه يحمل أيضا الذي عن أبي موسى وغيره « أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظُلِّلَ عليه فقال: من هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البر الصيام في السفر »(5) .
محمول على ما إذا كان هذا الصائم احتاج إلى من يظلل عليه وإلى من يخدمه وإلى من يرشه، وإلى من يظل مكانه الذي ينزل فيه. حتى لا يتألم ففي هذه الحال نقول: صيامه ليس من البر، كونه يغني نفسه ويخدم نفسه أولى من كونه يصوم ويحتاج إلى من يخدمه.
وفي حديث آخر « أن قوما جاءوا من سفر فأخذوا يمدحون صاحبهم فلان فقالوا: ما كنا في نهار إلا وهو صائم، ولا كان في ليل إلا وهو قائم. فقال -صلى الله عليه وسلم-: ومن يصلح حاله ومن يحمل رحله ومن ينزل رحله ومن يصلح طعامه ومن يصلح فراشه؟ فقالوا: نحن الذين نخدمه. فقال: أنتم خير منه »(6) وذلك لأنه يحتاج إلى من يخدمه؛ لأن الصيام أقعده وأتعبه، وحال بينه وبين أن يغني نفسه، فإذا كان كذلك فالصوم -والحال هذه- ليس بمفضول.
فنقول: لك إذا كنت في سفر وليس عليك مشقة، والصوم لا يعوقك عن خدمة نفسك، فالصوم أفضل حتى توقع الصيام في زمانه الذي فرض فيه، وهو أيام رمضان، وحتى لا يكلفك القضاء، فإنه كثير من الذين يفطرون يصعب عليهم القضاء فيبقون لا يقضون أيامهم إلا قرب رمضان الثاني فنقول في هذه الحال: الصوم مع عدم المشقة أفضل والفطر مع وجود المشقة أفضل، والصوم مع وجود المشقة جائز، والفطر مع عدم المشقة جائز، ولكنه مفضول.
يقول: إذا أفطرت الحامل أو المرضع خوفا على أنفسهما فعليهما القضاء فقط، إذا أفطرت خوفا على نفسها، حامل خشيت على نفسها فليس عليها إلا القضاء؛ لأنها كالمريض، خافت على نفسها من الألم، فإن كان خوفها على الجنين أو على الرضيع، فهي خائفة على غيرها، فعليها مع القضاء الإطعام.
هكذا روي عن ابن عباس وغيره وحمل على ذلك قول الله -تعالى-: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾(7) الإطعام على من؟ على والد الولد على من يلزمه مؤونة الولد؛ لأنها أفطرت لأجل هذا المولود هذا الولد، فلذلك يكون عليه الإطعام، وإن أطعمت هي من مالها أجزأ.
من أغمي عليه جميع النهار أو جُنَّ جميع النهار فلا يجزئه الصيام. أغمي عليه قبل الفجر مثلا بساعة، وما أفاق إلا بعد غروب الشمس، وما أكل ولا شرب هل يجزيه هذا الصوم؟ لا يجزيه؛ لأنه ما نوى.
وكذلك المجنون إذا جُنّ، أصابه جنون قبل طلوع الفجر، وأفاق بعد غروب الشمس، ولو ما أكل فلا يكون صياما؛ لأن الصيام يحتاج إلى نية، النوم: لو قدر مثلا أنه في رمضان عازم على الصيام، ثم غلبه النوم قبل الفجر، واستغرق في النوم ولم يصحُ ولم يستيقظ إلا في الليل في هذه الحال نقول: يجزيه الصيام؛ وذلك لأن النوم ليس مثل الجنون. إذا نُبِّه انتبه ولأنه ناوٍ.
المغمى عليه إذا أغمي عليه جميع النهار، فإن عليه القضاء، وأما المجنون فلا قضاء عليه؛ لأن من شرط التكليف العقل.
(1) أحمد (2/108). (2) البخاري : الصوم (1945) , ومسلم : الصيام (1122) , وأبو داود : الصوم (2409) , وابن ماجه : الصيام (1663) , وأحمد (5/194). (3) مسلم : الصيام (1117) , والترمذي : الصوم (713) , والنسائي : الصيام (2310) , وأحمد (3/50). (4) مسلم : الصيام (1119) , والنسائي : الصيام (2283). (5) البخاري : الصوم (1946) , ومسلم : الصيام (1115) , والنسائي : الصيام (2258) , وأبو داود : الصوم (2407) , وأحمد (3/318) , والدارمي : الصوم (1709). (6) (7) سورة البقرة: 184 |