فصــل في الفدية
فصــل في الفدية: يخير بفدية حلق وتقليم وتغطية رأس وطيب بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين كل مسكين مُدبُر، أو نصف صاع تمر، أو زبيب، أو شعير، أو ذبح شاة وفي جزاء صيد بمثل مثل، أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاما يجزئ في فطره ويطعم عن كل مسكين مُدّ بُر، أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن طعام كل مسكين يوما وبين إطعام، أو صيام في غير مثلي وإن عدم متمتع، أو قارن من هدي صام ثلاثة أيام في الحج.
والأفضل جعل آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع لأهله، والمحصر إذا لم يجده صام عشرة أيام، ثم حل وتسقط بنسيان في لبس وطيب وتغطية رأس وكل هدي، أو طعام فلمساكين الحرم إلا فدية أذى ولبس ونحوها فحيث وجد سببها ويجزئ الصوم بكل مكان والدم شاة، أو سبع بدنة، أو بقرة ويرجع في جزاء صيد إلى ما قضت فيه الصحابة، وفيما لم تقض فيه إلى قول عدلين خبيرين، وما لا مثل له تجب قيمته مكانه.
بعد ذلك شرع في الفدية:
عرفنا أن الفدية هي فدية المحظورات التي هي محظورات الإحرام؛ فعندنا خمسة من محظورات الإحرام: حلق الشعر، وتقليم الأظافر، وتغطية الرجل رأسه يلحق به وجه المرأة، والطيب، ولبس المخيط، هذه الخمسة: اثنان من اللباس -لبس المخيط-، وتغطية الرأس، واثنان من الترفع، وهما: التقليم والحلق، وواحدا: الطيب.
هذه الخمسة يخير فيها بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، له الخيار؛ للآية الكريمة، وهي قوله -تعالى-: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾(1) ذكرنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بينها في حديث كعب بن عجرة أنه قال: « هل تجد شاة؟ قال: لا. قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو أطعم فركا بين ستة مساكين »(2) والفرك: مكيال يساوي ثلاثة أصواع. وأراد أن يطعمهم من التمر.
الفقهاء فرقوا بين البر وغيره، فقالوا: إذا أطعم من البر فإنه يكفي لكل مسكين مد، وأما من التمر والزبيب والشعير فإنه لا بد لكل مسكين من نصف صاع، ومثله -أيضا- الأطعمة الأخرى: كالأرز والدخن والذرة؛ نصف صاع منها، ومن البر مد أي: ربع الصاع، والاحتياط أن يجعله جميعا نصفا عن البر، أو غيره.
ولا يخرج القيمة، لو قال -مثلا-: القيمة أنفع للفقراء، فيقال له: النص ورد بالإطعام، فيخرجها من الطعام، ولا يخرجها من الحرم، بل لمساكين الحرم؛ تفرق على مساكين الحرم، المراد بهم: السكان الذين بمكة.
أما جزاء الصيد؛ جزاء الصيد يخير بين إخراج المثل إذا كان مثليا، أو تقويمه بالدراهم؛ يشتري بها طعاما يجزئ فيه فطرة، فيطعم عن كل مسكين مد بر، أو نصف من صاع من غيره، أو يصوم عن كل إطعام مسكين يوما، هذا أول، وبين إطعام، أو صيام في غير مثله.
فـالله -تعالى- جعل له الخيار في قوله: ﴿ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ ﴾(3) هذا الأول ﴿ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾(3) ثم قال: ﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ﴾(3) ثم قال: ﴿ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ﴾(3) هذه الآية في سورة المائدة؛ ذكر الله -تعالى- فيها جزاء الصيد. لما ذكر أنه محرم.
ثم ذكر أنه بعد الإحلال يباح صيده؛ لقوله -تعالى-: ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ﴾(4) وبقوله -تعالى-: ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾(5) ثم عرفنا أن جزاء الصيد، إما أن يكون مثليا فإذا كان له مثل فإنه يقومه بدراهم، فيشتري بها طعاما يجزئ في الفطرة، فيطعم عن كل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن كل مسكين يوما، أو يخرج المثل ويذبحه، ويطعمه المساكين.
مثال ذلك: قالوا: إذا ذبح -مثلا- أرنب؛ الأرنب فيها عناق، العناق: هي السخلة التي عمرها -مثلا- ثلاثة أشهر، أو أربعة، فنقول له: إما أن تذبح العناق وتطعمها للمساكين، أو تقدر ثمنها، قدرنا أن ثمنها -مثلا- خمسون ريالا فيشتري بخمسين الريال طعام من البر، أو من الأرز، وتعطي كل مسكين مدا من البر، أو نصف صاع من غيره، فإذا شق ذلك عليك، واخترت الصيام فإننا نقدر كم قيمة العناق هذه؟ قيمتها خمسون ريالا. كم تساوي من البر، أو من الأرز؟ مثلا تساوي من الأرز -مثلا- خمسة آصع، الخمسة آصع، يعني: طعام عشرة مساكين تصوم عشرة أيام.
وهكذا لو كثر الصيام إذا قدرنا -مثلا- أن عليه بدنة إذا قتل نعامة، فالنعامة فيها بدنة؛ يذبح بدنة، أو نقدر قيمتها -مثلا- قيمتها ثلاثمائة ريال، الثلاثمائة ريال يشتري بها من الأرز، ثم يطعمه كل مسكينا له نصف صاع من الأرز، نقدر أن قيمة الصاع خمسة، فلكل مسكين نصف صاع، وإذا عجز يصوم عن طعام كل مسكين يوما، ولو كثرت الأيام. أما إذا لم يكن مثليا، يعني: لم يكن مما له مثل؛ لأن الله -تعالى- يقول: ﴿ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ﴾(3) فإنه يخير بين الإطعام والصيام، يعني: بين أن تقدر قيمته فيصوم، أو يشتري بها طعاما، فإذا هذا بالنسبة إلى جزاء الصيد.
بالنسبة إلى المتمتع والقارن عليه -أيضا- فدية؛ المتمتع: هو الذي أحرم بالعمرة، ثم فرغ منها، ثم أحرم بالحج. والقارن: هو الذي أحرم بالحج والعمرة -كما تقدم- عليه الهدي؛ لقوله -تعالى-: ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾(1) الهدي واحدة من الغنم، أو سبع بدنه، أو سبع بقرة، فإذا لم يجد الهدي قال -تعالى-: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾(1) الثلاثة التي في الحج يندب أن يصومها وهو محرم، أو بقي عليه بقايا الإحرام، فيحرم -مثلا- اليوم السابع، فيصوم السابع والثامن والتاسع حتى يفرغ منها قبل يوم النحر، هذا الأفضل أن يجعل آخرها يوم عرفة، فإن لم يتيسر صامها بعد العيد؛ الثلاثة بعد العيد: الحادي عشرة والثاني عشرة والثالث عشر.
أجاز بعض العلماء أن يصومها بين الحج والعمرة، فلو قدر -مثلا- أنه انتهى من العمرة في اليوم الثالث، ولا يحرم بالحج إلا في يوم التروية، فصامها في اليوم الرابع والخامس والسادس أجزأته؛ لأنه صامها في زمن الحج، وصامها في مكان الحج. السبعة إذا رجع يندب أن يبادر إليها، ولا يتأخر، يصومها مباشرة دون أن يؤخرها. هذا الصواب.
المحصَّر إذا لم يجد الهدي صام عشرة أيام ثم حلّ. المحصر؛ قال الله -تعالى-: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾(1) لما أحصر الصحابة -رضي الله عنهم- في الحديبية مع النبي -صلى الله عليه وسلم -، يعني: نعهم أهل مكة من إتمام عمرتهم، ذبحوا هديهم بالحديبية، وتحللوا، فكذلك إذا أحصر الإنسان.
الإحصار يكون بعدو يصده عن إكمال نسكه، أو بمرض كما لو سقط مثلا، أو حصل عليه حادث فتكسر، ولم يستطع إكمال حجه، أو إتمام عمرته يذبح عنه هدي كشاة، ثم يتحلل، فإن لم يجد بقي محرما حتى يصوم عشرة أيام؛ لأن الله جعل صيام العشرة أيام قائما مقام الحج، فيصوم في إحرامه عشرة أيام، ثم بعد ذلك يتحلل، إلا إذا كان قد اشترط: « إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني »(6) وإذا منعه الأطباء كثيرا ما يدخل المستشفى ويمنعونه من الصيام، وقد لا يجد الهدي، ففي هذه الحال يجوز له أن يتحلل وينوي الصيام بعدما يستطيع.
ذكر أنه يسقط بالنسيان فدية اللبس، والطيب، وتغطية الرأس، والصحيح: أنه يسقط -أيضا- بالنسيان فدية الحلق، وفدية التقليم.
الفقهاء الذين لم يسقطوها عللوا بأنها إتلاف، والصحيح: أنها لا فرق بين إتلاف وغيره، يقول: "كل هدي، أو إطعام فلمساكين الحرم إلا فدية الأذى واللبس ونحوهما بحيث وجد سببها".
الهدي الذي ذكرنا؛ ذكروا أنه أربعة أنواع:
الأول: هدي التطوع: كأن يهدي معه شيئا من ماله، كما أهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة بدنة فهذا يجوز أن يأكل منه، ولكن الأصل أنه يطعمه المساكين؛ قال -تعالى-: ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾(7) .
الثاني: هدي التمتع والقران: وهذا -أيضا- ملحق بهدي التطوع، له أن يأكل منه، ويطعم رفقته، ويطعم المساكين.
الثالث: جزاء الصيد: هذا لا يأكل منه، بل يطعمه كله للمساكين، وكذلك -أيضا- فدية المحظور؛ فدية المحظور إذا فعل محظورا، واختار أن يطعم، أو اختار أن يذبح فإنها لمساكين الحرم، ولا يأكل منها.
الرابع: دم الجُبْران: إذا ترك واجبا من الواجبات يجبره بدم، وهذا الدم -أيضا- لا يأكل منه، بل يطعمه للمساكين -مساكين الحرم-، وهكذا إذا اختار الإطعام لكل مسكين مد بر، فلا يعطي رفقته، وإنما يكون لمساكين الحرم، أما فدية الأذى فحيث وجد، وذلك لأن كعب بن عجرة حلق رأسه بالحديبية، وأطعم هناك، أطعم في الحديبية.
وكذلك فدية اللبس إذا -مثلا- أحس بالبرد فلبس عمامة وهو محرم، أو لبس قميصا، واختار أن يطعم، أو يذبح فإنه يذبح حيث وجد سببه، فلو كان -مثلا- في الطريق؛ كأن يكون في الطريق إلى جدة -مثلا-، أو في البحرة، أو في الشرائع فإنه يخرج الفدية في ذلك المكان -فدية الأذى وفدية اللبس: حيث وجد سببهم. أما الصوم فإنه في كل مكان؛ لأنه نفعه قاصر، يجوز أن يؤخره إلى أن يأتي أبناؤه إلى بلده.
الدم الذي ذكروا شاة، عرفنا أن الشاة هي الواحدة من الغنم، أو سُبع بدنة يأكل سُبع البدنة، أو سُبع البقرة يجتمع السُبع في بقرة.
جزاء الصيد، يرجع فيه إلى ما قضت الصحابة؛ الصحابة قضوا في الصيد ما قضوا به، فقضوا -مثلا- بأن في النعامة إذا قتلها: بدنة، وفي حمار الوحشي: بقرة، وفي ذكر الوحش: بقرة، وكذلك في الوعل والتيس والأروى+ وهي أنواع من الوعول فيها بقرة، أما الظبي والغزال ففيها عنز واحدة من الماعز.
الحمامة جعلوا فيها شاة مع أنها بعيدة منها، وقالوا: لأنها تشبها بالعبق، يعني: في الشرب، وإن كان شبها بعيدا، وقالوا في الأرنب: عناق، وفي الضب جعلوا فيه جبرة، وفي اليربوع -دويبة تشبه الفأر معروفة- جعلوا فيها -أيضا- جبرة، يعني: جعلوها كلها من الغنم، أو نحوها.
الضبع عند فقهائنا أنه حلال، فجعلوا فيه كبش؛ الكبش هو واحد الذكر من الضأن يرجع إلى ما قضى به الصحابة. أما ما لم يقضوا به فأنه يرجع فيه إلى قول عدلين خبيرين؛ لقوله تعالى: ﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾(3) وما لا مثل له تجب قيمته مكانه، إذا كان ليس له مثل أنه تجب قيمته في مكانه، يقدر قيمته في مكانه الذي ذبحه فيه، ثم يذبح قيمته، ويتصدق بها على مساكين الحرم.
(1) سورة البقرة: 196 (2) البخاري : الحج (1816) , ومسلم : الحج (1201) , والترمذي : الحج (953) , والنسائي : مناسك الحج (2851) , وأبو داود : المناسك (1858) , وابن ماجه : المناسك (3079) , وأحمد (4/243) , ومالك : الحج (956). (3) سورة المائدة: 95 (4) سورة المائدة: 2 (5) سورة المائدة: 96 (6) البخاري : النكاح (5089) , ومسلم : الحج (1207) , والنسائي : مناسك الحج (2768) , وأحمد (6/202). (7) سورة الحج: 36 |