كتاب الجهاد
حكم الجهاد وشرطه
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال رحمه الله -تعالى-: كتاب الجهاد: هو فرض كفاية إلا إذا حضره، أو حصره، أو بلده عدو، أو كان النفير عاما، ففرض عين، ولا يتطوع به من أحد أبويه حر مسلم إلا بإذنه. وسن رباطه، وأقله ساعة وتمامه أربعون يوما. وعلى الإمام منع مخذل، ومرجف وعلى الجيش طاعته والصبر معه.
بسم الله الرحمن الرحيم , والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
الجهاد هو قتال الكفار: من العلماء من يجعله مع الحدود، كما فعل صاحب المغني وغيره كثير، ومنهم من يجعله مع العبادات، كما في المقنع وشروحه؛ وذلك لأنه عباده، وبعض العلماء جعلوه ركنا من أركان الإسلام، وذلك لكثرة الأحاديث التي وردت فيه، الأحاديث التي وردت في فضل الجهاد، والتي وردت في كيفيته، وفي العمل فيه كثيرة، ويدل على ذلك -أيضا- جهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يستقر في المدينة بعدما هاجر إلا وقتا يسيرا، ثم بدأ يقاتل.
بدأ يغزو، ويهاجم في كل سنة عدة غزوات إلى أن فتحت البلاد، ودان العباد بالإسلام. كان -أولا- منهيا عن القتال، ومأمورا بالاقتصار على البلاغ: إن عليك إلا البلاغ: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾(1) وكذلك كان منهيا عن بداءة أحد وقتال أحد إلا بعد أن يبدأ، فنزل عليه في أول الأمر ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾(2) ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ﴾(3) ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾(4) ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾(1) ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾(5) وأشباه ذلك.
ولما قويت معنوية المسلمين أذن لهم إذنا ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾(6) .
فأول الأمور ممنوعون، ثم بعد ذلك مأذون لهم، ثم في الحالة الثالثة أن يقاتلوا من بدأهم، ويكون القتال للدفاع ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾(7) ثم في حالة رابعة قتال كل الكفار، في قوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾(8) واستمر الأمر على قتال جميع المشركين، حتى يسلموا.
الجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، ومعناه أنهم مأمورن بأن يقاتلوا في سبيل الله، فإذا قام به فرقة تكفي، فإنه يسقط الإثم عن الباقين.
متى يكون فرض عين؟
في ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا حضر الصف.
الحالة الثانية: إذا استنفره الإمام.
والحالة الثالثة: إذا داهمهم العدو، والدليل على الأول قول الله -تعالى-: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ﴾(9) إذا لقيتموهم، فاثبتوا وقوله -تعالى- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴾(10) فهذا دليل على أن من حضر الصف، وجب عليه الصبر، ووجب عليه القتال، وصار في حقه فرض عين.
أما النفير: فدليله قوله -تعالى-: ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ﴾(11) فإذا دعاهم الإمام أن ينفروا، وجب عليهم النفير.
أما دليل دهم العدو: فإذا دهم البلاد عدو، وليس لهم به يعني: قدرة، فإنه يتعين عليهم حتى على النساء وعلى الكبار والصغار، كل بقدر ما يستطيع، ثم يقول: لا يجاهد تطوعا إلا بإذن أبويه
الحر المسلم إذا كان أبواه موجودين، فلا يجاهد إلا بإذنهما لقوله -صلى الله عليه وسلم- لما جاءه رجل يستأذنه في الجهاد « أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد »(12) فإذا أذنا له جاز، فأما إذا كان فرض عين، فإنه لا يستأذن أحدا، بل ينفر، وذلك دليل على عظم حق الوالدين؛ لأن رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين.
ثم يسن الرباط قال -تعالى- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ﴾(13) الرباط هو ملازمة الثغور، التي يأتي منها العدو، إذا كان العدو يأتون من هذا الطريق سواء على أرجلهم، أو على جيش، أو خيل، أو سيارات، أو نحوها، فالذين يرابطون في هذا لهم أجر كبير؛ لأنهم يحرسون المسلمين، ألا يأتيهم أحد من هذا الفج الذي يخافون من أن يأتيهم، وهم على حين غفلة، فإذا أحس بالعدو جاء أنذر المسلمين، وقال: جاءكم العدو، فاستعدوا، ففيه فضل كبير قال -صلى الله عليه وسلم-: « رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا، وما عليها »(14) وأقله ساعة، وأكثره أربعون يوما.
تمام الرباط أربعون يوما، فإذا رابط أربعين في هذا السفر، فإن على الإمام أن يبدله بغيره؛ قد قضى ما عليه.
إذا غزوا، وأراد الغزو، فلا يجوز أن يكون فيهم المخذل والمرجف، يمنع الإمام المخذل والمرجف قال -تعالى-: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ﴾(15) فالمخذل هو الذي يخذل المجاهدين، يقول: لا تغزوا ليس أحد بحاجتكم! وليس هناك ضرورة إليكم! أي الجهاد ليس بضروري، لا حاجة إلى الجهاد في هذا الوقت، يخذلهم، ويمنع كثيرا منهم عن مقابلة العدو.
المرجف: هو الذي يهول الأمر، فيقول: إن عدوكم سوف يستولي عليكم! أنت ضعفاء لا تقدرون على أن تقاوموا العدو! وأكثر منكم عددا! وأكثر منكم قوة، ماذا تقاومون؟! ليس عندكم ما تقاومون به عدوكم! سوف يستولون عليكم! ماذا تفعلون؟! فيسبب أن ترتجف القلوب، فمثل هؤلاء لا يجوز أن يكونوا في الغزو، ويمنعهم الإمام، فلا يخرجون معه.
على الجيش طاعته والصبر معه، فالجيش الذين يغزو معه عليهم أن يطيعوا أميرهم، ويصبروا معه، ولكن « إنما الطاعة في المعروف »(16) .
مشهور « أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر على سرية عبد الله بن حذافة، وأمرهم أن يطيعوا، ثم إنه غضب عليهم، فأمرهم مرة أن يوقدوا نارا، وقال: ادخلوها؛ فقد أمركم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تطيعوني، فأراد بعضهم أن يدخلها، ثم قالوا: ما فررنا إلا من النار كيف ندخلها؟! ولا يزال بعضهم يحجز بعضا حتى خمدت، وسكن غضبه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنما الطاعة في المعروف »(17) .
فطاعته فيما فيه مصلحة، ولهم -أيضا- أن يشيروا عليه بما يرونه مصلحة، فقد ثبت « أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يعطي غطفان ثلث ثمرة المدينة على أن يرجعوا في غزوة الأحزاب، فاستشار سعدا، فقال: إن كان أمرا تأمرنا به، فسمعا وطاعة، وإن كان رأيا، فلا والله، ولا تمرة واحدة، فعند ذلك قبل كلام سعد »(18) .
وكذلك -أيضا- في كثير من الأمور يستشيرهم عملا بقول الله -تعالى- ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾(19) فإذا عزمت، فتوكل على الله، فعليهم أن يشيروا عليه بما يرونه صالحا، وأن يصبروا معه، وأن لا ينصرفوا، ولا يرجعوا حتى يرجع الجيش، وصفة الغزو كذلك، وصفة القتال موسعة في كتب الفقه.
ووقت اختيار البداءة والقتال: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينتظر حتى إذا زالت الشمس، وهبت الرياح، ونزل النصر، يبتدئ في القتال، وكان يدعو عندما يبدأ في القتال، فيقول: « اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم، انصرنا عليهم »(20) .
وكان يعبئ -أيضا- الجيش، فيجعله مقدمة وجناحين، ويجعل لكل جناح، يعني: لكل جانب من يحثهم، وكان -أيضا- يجعل في المؤخرة من يحث الذين يكادون أن ينهزموا، يحثهم على الصبر والثبات، ثم يشجعهم على الإقدام، وكذلك -أيضا- على المبارزة إذا طلبوا من يبرز إليهم، وهكذا. فالحاصل أن القتال هو مقابلة الصفين، وقتل كل منهم للآخر إلى أن يحصل النصر، وتحصل الهزيمة، ثم إذا انهزموا، فإنهم يدفعونهم ويقتلون، ولا يجوز الأسر إلا بعد الإثخان؛ لقوله -تعالى-: ﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ ﴾(21) أي أكثرتم بهم من القتال ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ﴾(21) أي الأسر، أي أوثقوهم، واربطوهم.
(1) سورة المائدة: 99 (2) سورة ق: 45 (3) سورة الغاشية: 22 (4) سورة الشورى: 48 (5) سورة الكافرون: 6 (6) سورة الحج: 39 (7) سورة البقرة: 190 (8) سورة التوبة: 5 (9) سورة الأنفال: 45 (10) سورة الأنفال: 15 (11) سورة التوبة: 38 (12) البخاري : الجهاد والسير (3004) , والترمذي : الجهاد (1671) , والنسائي : الجهاد (3103) , وأبو داود : الجهاد (2529) , وأحمد (2/193). (13) سورة آل عمران: 200 (14) البخاري : الجهاد والسير (2892) , وأحمد (5/339). (15) سورة الأحزاب: 60 (16) البخاري : الأحكام (7145) , ومسلم : الإمارة (1840) , والنسائي : البيعة (4205) , وأبو داود : الجهاد (2625) , وأحمد (1/82). (17) البخاري : الأحكام (7145) , ومسلم : الإمارة (1840) , والنسائي : البيعة (4205) , وأبو داود : الجهاد (2625) , وأحمد (1/82). (18) (19) سورة آل عمران: 159 (20) البخاري : الجهاد والسير (2966) , ومسلم : الجهاد والسير (1742) , والترمذي : الجهاد (1678) , وأبو داود : الجهاد (2631) , وابن ماجه : الجهاد (2796) , وأحمد (4/381). (21) سورة محمد: 4 |