حد الإسكار
تحريم الخمر
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال رحمه الله تعالى:
فصل:
وكل شراب مسكر يحرم مطلقا، إلا لدفع لقمة غص بها مع خوف تلف، ويقدم عليه بول. فإذا شربه أو احتقن به مسلم مكلف مختارا عالما أن كثيره يسكر حد حر ثمانين و قنّ نصفها. ويثبت بإقراره مرة كقذف أو شهادة عدلين. وحرم عصير ونحوه إذا غلى أو أتى عليه ثلاثة أيام .
(فصل) ويقطع السارق بثمانية شروط: السرقة: فهي أخذ مال معصوم خفية، وكون سارق مكلفا مختارا عالما بمسروقه وتحريمه، وكون مسروق مالا محترما، وكونه نصابا وهو ثلاثة دراهم فضة أو ربع مثقال ذهبا أو ما قيمة أحدهما، وإخراجه من حرز مثله، وحرز كل مال ما حفظ به عادة، وانتفاء الشبهة وثبوتها بشهادة عدلين يصفانها أو إقرار مرتين مع وصف ودوام عليه، ومطالبة مسروق منه أو وكيله أو وليه. فإذا وجب قطعت يده اليمنى من مفصل كفه وحسمت، فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل كعبه وحسمت، فإن عاد حبس حتى يتوب. ومن سرق تمرا أو ماشية من غير حرز غرم قيمته مرتين ولا قطع، ومن لم يجد ما يشتريه أو يُشترى به زمن مجاعة، لم يقطع بسرقة.
فصل: وقطاع الطريق أنواع: فمن منهم قتل مكافئا، أو غيره كولد، وأخذ المال، قُتل ثم صلب مكافيء حتى يشتهر. ومن قَتل فقط، قُتل حتما، ولا صلب. ومن أخذ المال فقط، قطعت يده اليمنى، ثم رجله اليسرى، في مقام واحد، وحسمتا وخلي. وأن أخاف السبيل فقط، نُفي وشُرّد.
وشرط ثبوت ذلك، ببينة أو إقرار مرتين، وحرز ونصاب. ومن تاب منهم قبل القدرة عليه، سقط عنه حق الله تعالى، وأخذ بحق آدمي. ومن وجب عليه حد لله، فتاب قبل ثبوته سقط. ومن أريد ماله أو نفسه أو حرمته، ولم يندفع المريد إلا بالقتل، أبيح ولا ضمان.
والبغاة ذو شوكة، يخرجون على الإمام بتأويل سائغ، فيلزمه مراسلتهم، وإزالة ما يدعونه من شبهة ومظلمة، فإن فاءوا، وإلا قاتلهم قادر.
السلام عليكم ورحمة الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين -نبينا محمد- وعلى آله وصحبه أجمعين.
من جملة الحدود حد الخمر، أي: حد شرب المسكر. الخمر: هي كل ما أسكر. الإسكار: هو إزالة العقل. الذي إذا شربه فإنه يزول معرفته، ويهذي في كلامه، ولا يعرف ما يقول، ويتصرف تصرفا سيئا -حَرُمَ هذا؛ لأنه يزيل العقل، ويلحق الذي يتعاطاه بالمجانين، أو أقل حالة من البهائم.
كانت الخمر مشهور شربها عند العرب قبل الإسلام، بل قد يفتخرون بها، كما في قول حسان في جاهليته:
ونشـربها فتتركنـا ملوكا *** وأسدا لا ينهنهنا اللقاءات
فلما جاء الإسلام، لم تحرم دفعة واحدة؛ لأنهم منهمكون فيها، بل حرمت على مراتب، حرمت على مرات، شيئا فشيئا. فأول ما نزل فيها، قول الله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَ﴾(1) قال العلماء -أو بعضهم-: إن هذه الآية هي التي حرمت بها الخمر؛ لأنه ذكر أن فيها إثم كبير، وإثمها أكبر من نفعها، فيدل على أنها محرمة.
والله تعالى قد حرم الإثم في قوله تعالى في سورة الأعراف -وهي مكية-: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ﴾(2) فتكون هذه الآية دالة على تحريمها، ولكن لم يحرمها الناس لهذه الآية، حيث ذكر أن فيها منافع للناس، منافع للناس إما بالتجارة فيها، وإما بالتلذذ بشربها. ولما نزلت تاب كثير وتركوها.
قُدِّر بعد ذلك أن قوما شربوها من الصحابة، وحصل منهم قتال، حتى ضرب بعضهم صاحبه بلحي جمل وشجه، وصلى بعضهم وقرأ في الصلاة: قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون، أنتم تعبدون ما أعبد. خلط في قراءته، عند ذلك نزلت آية في سورة النساء ﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾(3) نهاهم أن يصلوا في حالة السكر؛ وذلك لما يترتب على الصلاة -في حالة السكر- من الهذي والكلام السيء، فتاب ناس وتركوها تركا كليا.
وبقي آخرون يشربونها، في الأوقات الطويلة بعد الفجر، يصحون قبل أن يدخل وقت الظهر، بعد العشاء، يصحون قبل دخول وقت الفجر. ولما عرفوا آثارها السيئة، نزل تحريمها بعد ذلك بالآيات التي في سورة المائدة، وأخذوا تحريمها من الآيات من عشرة أوجه:
الوجـه الأول: أن الله قرنها بالأصنام ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ﴾(4) التي هي الأصنام.
الوجـه الثاني: "رجس" والرجس: هو النجس.
الوجـه الثالث: "من عمل الشيطان" والشيطان لا يدعو إلا إلى الحرام، وإلى الأثام.
الوجـه الرابع: "فاجتنبوه" والاجتناب: هو الابتعاد، أبلغ من "اتركوه".
الوجـه الخامس: "لعلكم تفلحون" أي: يتوقف فلاحكم على تركها.
الوجـه السادس: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ ﴾(5) العداوة بينكم يوقعها الشيطان؛ بسبب هذا الخمر.
الوجـه السابع: "البغضاء" العداوة والبغضاء في الخمر والميسر.
الوجـه الثامن: "ويصدكم عن ذكر الله" أي: أن مجالسها مجالس باطل، تصد عن ذكر الله.
الوجـه التاسع: قوله "وعن الصلاة" أي: أنها تشغل عن الصلاة.
الوجـه العاشر: "فهل أنتم منتهون" فقالوا: انتهينا انتهينا. فحرمت الخمر بهذه الآيات.
عقوبة شارب الخمر
ووردت الأدلة في عقوبة شاربها، وأن من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة، مع أن خمر الآخرة ليست مثل خمر الدنيا؛ لقول الله تعالى: لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ﴾(6) وقوله: ﴿ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ﴾(7) مما يدل على أنها منزهة عما يكون في خمر الدنيا، كذلك ورد في الحديث، أن الذي يشربها، ويموت وهو يشربها، يسقيه الله من طينة الخبال: عصارة أهل النار.
ثم ما ذكروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم- حد لها حدا محددا، ولكن إذا جيء بشارب الخمر يقول: اضربوه. فمنهم من يضربه بيده، ومنهم من يضربه بنعل، ومنهم من يضربه بعصا نحو الأربعين، هكذا كان في حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا أُتي بسكران. وكذلك أيضا في عهد أبي بكر، يضرب نحو الأربعين.
لما كان في عهد عمر، كثر الذين يتعاطون شرب الخمر، ولم تردعهم أربعون جلدة، وتهاونوا بها. فاستشار عمر -رضي الله عنه- الصحابة فقالوا: إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون. الإفتراء: هو الكذب والقذف. فأمر عمر أن يجلد ثمانين، فصار يُجلد هكذا. ولو أن ذلك لم يحدد في العهد النبوي؛ لأن هذا من باب التشديد عليه.
فأكثر الفقهاء على أن حده ثمانون؛ لأن عمر أفتى بذلك، ووافقه عليه الصحابة، وذهب بعض المحققين -كشيخ الإسلام ابن تيمية- إلى أن الحد أربعون، وأن الزيادة تعزير، تستعمل عند الحاجة أي: متى تهافت الناس على ذلك، وكثر الذين يتعاطونه، وتهاونوا بالأربعين، زيد إلى الثمانين.
وإن لم تردعهم الثمانون، وكثروا وتهاونوا بهذه العقوبة، زيد إلى مائة، أو إلى مائة وعشرين؛ لتكون الزيادة تستعمل وقت الحاجة. عندما يكثرون، ويتمكنون من الشرب، فعند ذلك يجلد إلى ثمانين، يجلد إلى مائة، يجلد إلى مائة وعشرين، ولو احتيج إلى زيادة زيد؛ لأجل أن يرتدع الناس.
ثم ورد حديث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: « إذا شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه »(8) هذا الحديث رواه بعض العلماء، وقال بعضهم: منسوخ، وقالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم- أُتي برجل شرب الرابعة، فلم يقتله. فجزموا بأنه منسوخ.
ويقول الترمذي -لما خرجه قال في آخر كتابه-: أنه لم يجد من يعمل به. يعني: لم يكن هناك عليه عمل، ولكن الحديث روي من طرق، جمعها الشيخ أحمد محمد شاكر، الذي حقق أول المسند، وحقق أول تفسير الطبري، فإنه عندما روى الحديث في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، خرجه وذكر الشواهد عليه، حتى بلغت أحد عشر حديثا. استدل بها على أنه متواتر.
ثم إنه أفرد هذا القدر، وطبعه في رسالة مستقلة، في قتل الشارب بعد الرابعة، وقال: إنه لا عذر لأحد في ترك العمل به، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم- ما قتله بعد الرابعة قد يكون لعذر، قد يكون ذلك الذي جلده ثلاث مرات أو أربع لم يكن متهاونا، ولم يكن من المتساهلين، ولعل له عذرا، وهو واحد، وقصة واحدة.
ولا يبطل -لأجل هذه القصة- العمل بأحد عشر حديثا، مروية من عدة طرق، يقوي بعضها بعضا، بمجموعها يكون كالمتواتر. فلا عذر لأحد من المفتين والعلماء، أن يتركوا العمل بهذا الحديث، سيما في الأزمنة المتأخرة، التي تساهل الناس فيها بشرب الخمر، وصاروا لا يبالون، ويجلد أحدهم ثم يعود.
ويذكر الآن أن بعضهم جلد عشر مرات، وربما إلى عشرين، ومع ذلك يخلى سبيله، أو يسجن أياما ثم يخلّى سبيله، وحيث إن عندنا هذا الحديث، الذي يأمر فيه بقتله نقول: إن ترك العمل به تهاون وتساهل، حيث وجد سببه، فلا عذر لأحد إذا أفتى بعدم قتله، مع وجود الأحاديث. ولو قتل واحد لارتدع كثيرون، فإنه إذا كان الحد شديدا، صار بذلك رادعا لأولئك الكثير، الذين يتعاطون شرب الخمر بالعشرات، وبالمئات وبالألوف، يوميا أو أسبوعيا، ولا يبالون.
يقول: "وكل شراب مسكر يحرم مطلقا". بشرط أن يكون مسكرا. ذهب الحنفية إلى أن الخمر تختص بعصير العنب، وقالوا: إنه الخمر المعروف، وأما بقية ما يعصر، من المأكولات ونحوها، فلا يسمى خمرا، ولا يحرم عندهم إلا إذا بلغ حد الإسكار.
وخالفهم في ذلك الجمهور، الذين يرون أنه خمر، من أي شيء صنع، وذكر عن عمر-رضي الله عنه- أنه قال: "إن الخمر من خمسة" -يعني في العهد النبوي- يقول: "إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من الذرة خمرا". يعني: ما عصر من هذه، وبلغ حد الإسكار، فإنه يسمى خمرا. فلا يجوز شربه، ولو كان قليلا.
ودليل ذلك أيضا، الحديث الذي يمكن أنه متواتر، ولفظه « كل مسكر حرام كل مسكر خمر »(9) وقصة أبي موسى، لما ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم- أنواعا من الأشربة في اليمن، منها ما يسمى "البتع" ومنها ما يسمى "المذر". وذُكر لعمر شرابا يسمى "الطلاء" يشرب في مصر، فكلها ألحقوها بالخمر.
لما سأل أبو موسى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن البتع فقال: « أمسكر هو؟ قال: نعم. قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام »(10) فيحرم شرب المسكر. استثنوا من ذلك إذا كان لدفع لقمة غص بها، مع خوف تلف، ولم يجد ما يدفعها إلا بكأس خمر. ويقدم عليه بول، إذا وجد بولا، ووجد خمرا، فأيهما يدفع به هذه الغصة؟ يدفعها بالبول. فإذا لم يجد إلا الخمر، دفعها به، وعفي عنه.
هكذا يمثلون، مع أن هذا نادر، يعني: نادر أن لا يجد إلا خمرا؛ لأنه يجد المياه، ويجد الألبان، ويجد العصيرات المباحة، يدفع بها هذه اللقمة التي غص بها. وإنما ذكروا ذلك تقديرا، يعني: لو قُدر أنه ما وجد إلا خمرا، فله أن يشرب منه جرعة، يدفع تلك الغصة .
شروط شارب الخمر
ثم يقول: " فإذا شربه، أو احتقن به مسلم مكلف مختار، عالما أن كثيره يسكر، حد حر ثمانين، وقِنٌ نصفها".
الإحتقان: كونه يحتقن بها مع أنفه مثلا، أو مع شدقه، يعني: أدخل طرف أو حافة المحقن في شدقه وصبها. وقد يراد بالاحتقان: لو أدخلها مع دبره، صدق عليه أنه أدخلها إلى جوفه.
اشترطوا الشرط الأول: أن يكون مسلما؛ وذلك لأن أهل الذمة يستبيحون شرب الخمر -اليهود والنصارى- كما في قول الأخطل:
ولكـني سأشـربها شـمولا *** وأسجد عند منبلج الصباح
يعني يفتخر بأنه سيشربها.
الشرط الثاني: أن يكون مكلفا. المكلف: هو البالغ العاقل. فإذا كان صغيرا لا يعرف، أو كان مجنونا لا يعقل، فلا حد عليه؛ لأنه غير مكلف.
الشرط الثالث: أن يكون مختارا. يُخْرِج إذا أكره على شربها، وهدد وقيل: إن لم تشربها قتلناك، إن لم تشربها ضربناك، ضربا مبرحا لا تتحمله. فتهاون بها وشربها مختارا.
الشرط الرابع: العلم. أن يكون عالما بالتحريم. فإذا كان جاهلا، لا يدري أنها محرمة، فلا حد عليه، وكذلك عالما أنها تسكر، أو أن الكثير منه يسكر، ولو كان القليل لا يسكر.
فإذا تمت هذه الشروط، أقيم عليه الحد. إن كان حرا ثمانون جلدة، وإن كان قِنًّا أربعون جلدة. هكذا يجب عليه الجلد، يكون جلدا وسطا، ليس شديدا، وليس خفيفا وسهلا، بل يكون جلدا متوسطا. ذكروا أنه فوق جلد القذف، ودون جلد الزنا.
ثم لا بد من ثبوت الشرب. بأي شيء يثبت؟ بإقراره مرة، أو بشهادة عدلين. فإذا أقر بأنه شرب الخمر التي تسكر، ثبت عليه الجلد، إذا شهد عليه شاهدان بأنه قد اعترف: نشهد أنه اعترف عندنا، أنه شرب الخمر، أقيم عليه الحد. وذكروا أيضا أن القذف يثبت بإقراره، إذا قال: أنا الذي قذفت فلانا، أنا الذي قلت أنه زانٍ، أو فلانة. إذا شهد على اعترافه عدلان، فإنه يحد. وكذلك إذا شهد عدلا ن على شربه، وقالا: رأيناه يشرب، فإنه يُحد.
كذلك يقول: "حرم عصير ونحوه، إذا غَلَى، أو أتَى عليه ثلاثة أيام ". العصير: عصير عنب، أو كذلك عصير تمر، ويسمى النبيذ. يطرح التمر في الماء إلى أن يكتسب حلاوة، أو يفرك في الماء إلى أن يكسبه حلاوة، وكذلك أيضا الزبيب، إذا خمر في الماء إلى أن يذوب، فإذا غلى ورمى بالزبد، فإنه يقرب من الإسكار، وكذلك إذا أتى عليه ثلاثة أيام.
ذكرت عائشة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان ينبذ له في سقاء، يطرح في ذلك السقاء تمر، ويصب عليه ماء، فيشرب منه ثلاثة أيام، أو يومين ونصف، وإذا بقي بعد ذلك شيء منه، أمر أن يُشرب أو يُراق، يخشى أنه ينعقد، ويبلغ حد الإسكار.
ففيه دليل على إباحة النبيذ، وكان قد نهى بعضهم عن الانتباذ في بعض الأسقية، ثم رخص لهم أن ينتبذوا فيما شاءوا، ولا يشربوا مسكرا. نهى عن النبيذ في الحنتم والمزفت والمقَير والدباء، الدباء: هو نوع من القرع، رأسه دقيق، إذا يبس فإنهم يأخذون جِرْمَه فيجعلون فيه دهنا، يحفظون فيه الدهن أو العصير. وحيث إن رأسه دقيق، يسرع إليه التغير، فنهى عن النبيذ فيه.
وكذلك الحنتم، ويسمى "الزير" الذي يصنع من الطين ونحوه، أو الجرار، وكذلك الذي مبني بقار أو بزفت، يسرع إليه التغير، ولكن إذا تحققوا أنه لا يتغير، جاز الانتباذ فيه.
حد السرقة
شروط حد السرقة
تقدم من الحدود حد الزنا، وحد القذف، والتعزير، وحد الخمر، وبقي الآن حد السرقة، وحد قطاع الطريق، وحد البغاة، وحد المرتد .
ذَكر أن السارق يقطع بثمانية شروط، السارق: هو الذي يأخذ المال المحترم من حرزه، على وجه الخفية، فهو الذي يسمى سارقا. فإذا أخذ من المال المنشور، إذا كان إنسان مثلا نشر بضاعته، وجاء إنسان، وتحرى غفلته، وأخذ منه شيئا وهو لا يدري، فهذا ليس بسارق، يسمى مختلِسا.
وكذلك الذي ينهب المال ويهرب به، يسمى منتهِبا. وكذلك الذي يأخذه قهرا، يسمى مغتصِبا. لا يقطع المختلس والمنتهب والمغتصب؛ وذلك لأن القطع إنما جاء في حق السارق، وغيره يعزر، يعزرون التعزير الذي يردعهم.
وأما السارق فيقطع بثمانية شروط:
الشرط الأول: أخذ مال معصوم خفية، "أخذ مال معصوم" يُخرِج ماذا؟ يخرج مال الحربي. إذا أخذ مال حربي فلا يسمى سارقا، ولا قطع عليه؛ لأن الحربي حلال قتله، وحلال ماله. يدخل في مال المعصوم المسلم والذمي والمعاهَد والمستأمَن؛ لأنهم معصومة دماؤهم، وكذلك أموالهم.
ولا بد أن يكون الأخذ خفية، ويمكن أن يعد هذا شرطا تاسعا، أن يكون أخذه خفية، فأما أخذه علانية فلا يسمى سرقة.
الشرط الثالث: أن يكون السارق مكلفا مختارا، عالما بمسروق وتحريمه. فإذا كان صغيرا، أو مجنونا، أو مكرها على السرقة، أو جاهلا بتحريم السرقة، أو جاهلا بأن هذا المال معصوم، أو معتقدا أنه يجوز، لم يعلم أنه محرم -فلا يقطع.
الشرط الرابع: كون المسروق مالا محترما، يُخرج ماذا؟ إذا سرق أشرطة غناء، أو طبول محرمة، أو أجهزة الدشوش التي ليست محترمة، أو سرق دخانا؛ لأنه ليس بمال، أو سرق خمرا، أو سرق مخدرات، فهل يقطع؟ لا يقطع؛ لأن هذا ليس بمال محترم.
الشرط الخامس: أن يكون المسروق نصابا، وهو ثلاثة دراهم فضة، أو ربع مثقال ذهبا، أو ما قيمته أحدهما. ربع دينار، أو ثلاثة دراهم يعني: بالدراهم القديمة، التي هي من الفضة. ثم مقداره في هذه الأزمنة بهذا النحو.
ورد أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: « لعن الله السارق، يسرق البَيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده »(11) يعني: أنه لا يفكر. البَيضة: هي الترس الذي يجعل على الرأس في حالة القتال، من حديد، أو من صفر، أو من نحاس، تقي من وقع السلاح، وتسمى أيضا "المِجَنّ.
ورد أن النبي- صلى الله عليه وسلم- « قطع في مجن ثَمنُه ثلاثة دراهم »(12) وروي أن رجلا سرق أُتْرُجَّةً، الأترجة: التي هي شبيهة بالليمون، إلا أنها كبيرة، وكانت قيمتها ثلاثة دراهم، فقطع.
ثم مقدار الذهب في هذه الأزمنة، ربع مثقال أي: ربع دينار. يقارب السبع من الجنيه السعودي، يعني: سبع الجنيه. إذا كان الجنيه مثلا بسبعمائة، فسرق مائة قطع.
معلوم أيضا، أن الدراهم الفضة قد لا تكون موجودة في هذه الأزمنة، ولكن معروفة قيمتها، فنصاب المال الزكوي من الفضة مائتان من الدراهم، ومقدارها بالريال الفضي السعودي ستة وخمسون. فإذا نظرنا في مائتين، وقسمناها على ستة وخمسين، وإذا هي نحو الربع، يدل على أن الدرهم قريب من ربع الريال السعودي.
فإذا سرق مثلا ثلاثة أرباع الريال السعودي، إذا سرق ثلاثة أرباعه؛ لأنها تكون عن ثلاثة دراهم، صدق عليه أنه سرق نصابا، فيقطع. وحيث إن الريال الفضي أيضا غير متوفر، يرجع إلى قيمته. يمكن أن تكون قيمة الريال عشرة ريالاتٍ أوراقا، فعلى هذا يكون النصاب من الدراهم الورقية نحو ثلاثين، فإذا سرق ثلاثين ريالا من الأوراق، صدق عليه أنه سرق نصابا، فيقطع. وكذلك لو سرق سلعة قيمتها هذا.
ثم ذكر الشرط السادس: إخراجه من الحرز، من حرز مثله. الحرز: حرز كل مال ما يحفظ فيه عادة، فإذا -مثلا- كسر الباب ودخل، وأخذ قِدرا مثلا، مما يوجد في الأسوار ونحوه، قطع. أو كيسا؛ لأنه أخذه من حرزه. وهكذا مثلا إذا كسر باب الغرفة، وأخذ منها مثلا أقمشة تدخر، وتجعل في داخل الأحواش، صدق عليه أنه أخذ من حرز. كذلك أيضا لو فتح أو كسر الصناديق، وأخذ من الجواهر، أو من الحلي، أو من النقود، صدق عليه أنه أخذ من الحرز.
أما إذا وجد هذا المال ملقى عند الباب، إنسان جعل عند بابه -في الطريق- أكياسا من الطعام مثلا، أو ثيابا أقمشة، فالذي يأخذ منها لا يسمى سارقا؛ لأنه أخذ من غير حرز، فلا قطع عليه.
الشرط السابع: انتفاء الشبهة. فإذا قال: أنا شريك في هذا المال، وهو كان له شراكة، فلا قطع؛ لأنه يدعي أنه أخذ شيئا يملكه. وكذلك لو كان المال صدقات، مجموعةٌ في بيت، وقال: أنا من الفقراء الذين تحل لهم هذه الصدقات، ما أخذت إلا من شيء يحل لي. أو كان المال مثلا غنيمة، وهو من جملة الغانمين، وقال: أنا لي حق فيه، فلا يقطع.
الشرط الثامن: ثبوت السرقة. ثبوتها بأي شيء؟ بشهادة عدلين، شهد عدلان بأنا رأيناه قد خرج من هذا الباب، يحمل هذا الكيس، أو يحمل هذا الثوب، أو يحمل هذا القماش، أو رأيناه خرج من هذا الباب، وجاء صاحب البيت، وقبضه وفتشه، فوجد معه هذه الأموال، وعرفنا أنه أخذها، ثبتت السرقة. وكذلك الإقرار. إذا اعترف وأقر بأنه أخذ من هذا المال، كذا وكذا سرقة، أقر مرتين، ودام على ذلك الإقرار، ولم ينكر، صدق عليه أنه يعتبر سارقا.
والشرط التاسع: مطالبة صاحب المال، أو وكيله، أو وليه. صاحب المال المسروق إذا لم يطالب، فيمكن أنه أباحه له، قال: هذا أخذ منا، ونحن قد سمحنا عنه؛ لأنه قريب لنا، أو صديق أو نحو ذلك. ففي هذه الحال، يعفى عنه، ولا يقطع. وكذلك لو لم يطالب المالك، ولكن وكّل، أو كان المالك صغيرا، كمحجور عليه، فطالب وليه. هذه هي الشروط.
فإذا تمت الشروط، وجب قطع يده. يبدأ بقطع يده اليمنى، وتقطع من مفصل الكف أي: المفصل الذي بين الكف وبين الذراع. وإذا قطعت حسمت، يغلون زيتا، فإذا غلى ذلك الزيت، وقطعوا يده، غمسوا رأسها في ذلك الزيت. لماذا؟ لتتوقف العروق، وتنسد عروق الدم؛ لأنهم إذا لم يغمسوها، خرج الدم، واستمر خروج الدم، وأدى ذلك إلى موته؛ فيغمسونها بعد ذلك، ويعالجونها إلى أن يطيب الجرح، ويبقى ليس له إلا يد.
تقطع من مفصل كفه وتحسم. فإذا عاد، سرق مرة ثانية، قطعت رجله اليسرى من مفصل كعبه، وحسمت، ولا تقطع يده اليسرى، ولا تقطع رجله اليمنى، بل تقطع الرجل اليسرى، حتى لا يكون مشلول الجانب، وتحسم أيضا رجله إذا قطعت، ويكون القطع من مفصل الكعب، تقطع القدم.
فإذا عاد، قُدر أنه سرق، وقد قطعت يد ورِجْل، فهل يقطع مرة ثانية؟ الصحيح أنه لا يقطع، وإن كان روي عن بعض السلف أنه قطع ثلاث مرات، يعني: يد ثم رجل ثم يد. بل يحبس حتى يتوب أو يموت؛ وذلك لأنه يعتبر مفسدا.
السرقة من غير حرز
" ومن سرق تمرا من غير حرز، غرم قيمته مرتين، ولا قطع عليه" وكذلك من سرق ماشية، يعني: جاء إلى غنم، قد باتت في غير حرز، وأخذ منها شاة، أو جاء إلى إبل ترعى، وأخذ منها جملا، فإنه يغرم قيمته مرتين، سواء ذبحه أو باعه، ولا قطع؛ لأنه أخذه من غير حرز. هكذا ورد عن بعض السلف، أنه يغرم ولا يقطع.
السرقة زمن المجاعة
ولا يقطع في زمن المجاعة. إذا اشتد به الجوع، ولم يجد ما يشتري به طعاما، أو ما وجد شيئا يشتريه، ما وجد خبزا، ولا وجد تمرا، ولا وجد أرزا، واحتاج، ودخل في بيت، وأخذ منه خبزا، ولو أكثر من النصاب -فإنه معذور.
ولهذا أسقط عمر-رضي الله عنه- القطع في سنة مجاعة حصلت، تسمى "عام الرمادة" مجاعة اشتدت. سواء لم يجد طعاما يشتريه، أو لم يجد قيمته، زمن مجاعة، أو كان ارتفع سعره، فلا يقطع والحال هذه؛ لأنه معذور.
حد قطاع الطريق
عقوبة قطاع الطريق
الباب الذي بعده: قُطَّاع الطريق: وهم الذين يقفون في الطرق، ويقتلون من مر بهم، أو ينهبونه، أو ما أشبه ذلك. يقفون في بعض الطرق التي هي قليلة السالكين، لا يأتيها إلا أناس قليل. فإذا جاءهم إنسان ليس معه أحد، أوقفوه، وأكرهوه على أن يأخذوا ما معه من المال، فإن دافعهم قتلوه، وأخذوا المال.
فإن كانوا جماعة قاتلوهم، إلى أن يأخذوا ما معهم من المال، وقد يكون أيضا قصدهم سيئا، وهو الزنا بمن معه من النساء، بأن يكرهوه على أن يخلي بينهم وبين النساء؛ ليزنوا بهن. يحدث هذا أيضا كثيرا، فإما أن يقتلوا الرجل، وإما أن يوثقوه رباطا، ويتمكنوا من المرأة أو من النساء، يعتبرون قطاعا.
نزل فيهم قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾(13) .
ذهب بعض العلماء -كالمالكية- إلى أن الإمام مخير؛ لأن الآية فيها أو أو، فإما أن يقتل، وإما أن يأسر، ويوثق ويسجن، وإما أن يقطع، وإما أن ينفي. ﴿ أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾(13) فدل ذلك على أنه مخير؛ لأن كلمة "أو" للتخيير، كما في قوله تعالى: ﴿ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾(14) .
وذهب الإمام أحمد إلى أن العقوبة على قدر الذنب، وروي ذلك عن ابن عباس فيقول: "من منهم قتل مكافئا، أو غيره كولد، وأخذ المال، قتل ثم صلب. صلب مكافئا حتى يشتهر". قوله "مكافئا" يعني: إذا كان حُرٌ قتل حرًا، يعني: حر مسلم قتل حرا مسلما. أما إذا قال: أنا ما قتلت إلا عبدا، في هذه الحال يغرم قيمة العبد.
وكذلك إذا قال: أنا ما قتلت مسلما، إنما قتلت كافرا، هذا الذي قتلته ليس بمسلم. نقول: إنه معاهد، وقتلك له يعتبر اعتداء، ولكن حيث إنه جاء الحديث « لا يقتل مسلم بكافر »(15) فإنه -والحال هذه- لا يقتل، ولكن يعذر ويسجن ونحو ذلك. فالحاصل: أنه إذا كان مسلم حر قتل مسلما حرا، أو قتل ابنه مثلا، ولو كان صغيرا، أو قتل امرأته، أو نحو ذلك، فإنه إذا قَتل وأخذ المال، يجمع له بين العقوبتين، يقتل ثم يصلب.
يصلب على سارية، أو على خشبة، في السوق، يومين أو ثلاثة أيام، وهو مصلوب بعدما يقتل، حتى يشتهر أمره، وحتى يعرفوه. ومنهم من ينصب الرأس، إذا كان مثلا في حَرٍّ شديد، ويُخشَى أنه ينتن، يكتفون بصلب الرأس، ويدفنون الجثة. هذا الذي جمع بين الأمرين، القتل وأخذ المال.
الثاني: إذا قتل فقط، ولم يأخذ المال، فإنه يقتل حتما، ولا صلب عليه، لا يصلب؛ وذلك لأنه اقتصر على القتل، فيقتل ويدفن بعد قتله. وهل يدخل في العفو؟ لو قال ولي المقتول: أنا أسمح عنه، ولا أريد قتله. هل يسقط القتل؟ لا يسقط؛ وذلك لأنه حد من حدود الله، أخاف الطريق، وتعدى على المسلمين، فالحق لله تعالى.
ولذلك أخبر الله: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ﴾(13) يعني: عقوبتهم. فلا يسقط بعفو صاحب المال، أو صاحب الدم. يقولون: من أخذ المال فقط، يعني: أَكرَه وأخذ المال بدون قتل، في هذه الحال، قطعت يده اليمنى، ثم رجله اليسرى، في مقام واحد، وحسمتا، وخلي سبيله. يقطع منه يد من جانب، ورجل من جانب، اليد اليمنى، والرجل اليسرى، كما يقطع السارق إذا سرق المرة الثانية، وتحسم، ولا يسجن، بل يخلى سبيله.
كانوا إذا قطعوا السارق، أو قاطع الطريق، يعلقون يده في عنقه، حتى يعرف الناس أنه سارق، أو أنه محارب. ولكن في هذه الأزمنة، قد يتمكن الأطباء أن يزرعوا يده، وأن يعيدوها في مكانها، وكذلك رجله، بعملية. يقارب العروق بعضها إلى بعض، ويخيط بعضها في بعض، حتى يسري فيها الدم، وتعود فيها الحياة؛ فلذلك -في هذه الأزمنة- لا يُمَكَّن من أخذ يده ورجله، بل تدفن، أو تقَطّع قِطعا متكاثرة، تقطع الأصابع قطعا، وتقطع الكف، وتشقق اليد والرجل، ونحو ذلك، حتى لا يتمكن من أخذها وإعادتها.
هؤلاء ثلاثة. الرابع: إذا أخاف السبيل فقط، فإنه ينفى ويشرد؛ لقوله تعالى: ﴿ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾(13) فهذا هو الرابع.
الأول قتل وأخذ المال، الثاني قتل فقط، الثالث أخذ المال فقط، الرابع أخاف السبيل -أخاف الطريق- يعني: بحيث صار الناس يفزعون من سلوك هذا الطريق، فقبض عليه، فينفى من الأرض. لكن في هذه الأزمنة قد لا يكون النفي متوفرا أو مفيدا؛ لسهولة المواصلات؛ ولقرب الأماكن، فيكتفي بعض العلماء بالسجن، يقول: أنه يدخل السجن، ويضيق عليه. هذه حالاته الأربع.
إثبات حد قطاع الطريق
يقول:" وشرط ثبوت ذلك ببينة، أو إقرار مرتين، وحرز، ونصاب". فإذا أنكر وقال: أنا ما قطعت الطريق. فلا بد من بينة، يشهد شاهدان: نشهد أن هذا من الحزب الذين وقفوا في طريق آل فلان، وأنه باشر قتل، وأنه باشر أخذ مال، وكذلك غيره.
لم يذكر الفقهاء ما إذا أكره الرجل على الزنا، أو على اللواط؛ وذلك لأنهم اكتفوا بما تقدم في الزنا، أو في اللواط، فقالوا: إذا كان قصده من الوقوف في الطريق فعل الفاحشة بالمرأة، أو بالصبي -فعل اللواط- في هذه الحال يحكم عليه بحق اللواط، بحق الزنا، الحد الذي وجب عليه، الرجم أو الجلد أو الإحراق، كما في حرق الصحابة اللوطي، أو ما أشبه ذلك.
فالحاصل: أنه لا بد أن يكون هناك بينة، يشهدون بأن هذا قطع الطريق، وفعل كذا، أو اعترافه، يعترف مرتين، يقول: أنا من الذين قطعوا الطريق، وقتلوا وأخذوا وأخافوا، ونحو ذلك.
توبة قاطع الطريق قبل القدرة عليه
يقول: " ومن تاب منهم قبل القدرة عليه، سقط عنه حق الله تعالى، وأُخذ بحق الآدمي؛ لقول الله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ﴾(16) يعني: جاء قبل أن تقبض عليه الحكومة، وسلم نفسه، وقال: أنا تائب، وهذه توبتي. فيسقط عليه حق الله تعالى.
فإذا كان مثلا قد قتل، وقال ولي المقتول: أريد القصاص. قد قتل وأخذ المال، فقال صاحب المال: أنا أريد حقي من المال، وقال صاحب الدم: أنا أريد حقي من القصاص، يغرم دفع المال ولا يقطع، ويقتل قصاصا ولا يصلب. الصلب حق لله، وهذا قد تاب، فيقتل حقا لآدمي ولا يصلب، كذلك المال حق لآدمي، طالب بالمال، وقال: إنه أخذ من أبي كذا وكذا، يطالب بدفع المال ولا يقطع.
لو -مثلا- أنه أخذ المال، ولم يَقتل، ثم تاب قبل أن يُقدر عليه، فلا تقطع يده ورجله؛ لأن هذا حق لله. ولكن حق الآدمي إذا طالب به يدفع، لو قال الآدمي: أنا عفوت عنه، سقط حقه إذا عفى عنه؛ لأنه حق لآدمي. فإن طالب به، فإنه يثبت.
فيثبت حق آدمي مثلا لو قال: إنه قطع يدي، إنه شجني، إنه فقأ عيني، أريد القصاص. يمَكّن من القصاص. وأما إذا قال: إنه قتل أبي، وأخذ مالنا، فأطالب بقتله، وبأخذ المال، وبالصلب. رُدّ المال. أو: عفوتُ عن المال، ولكن أريد أن يقتل، ويصلب، الصلب حق لله.
فالصلب حق لله، وقطع اليد والرجل حق لله، والنفي حق لله، ورد المال حق لأدمي، والقصاص في النفس، أو فيما دون النفس حق لآدمي. هذه يُطالَب بها. ومن وجب عليه حد لله، وتاب قبل ثبوته، سقط. من وجب عليه حد لله تعالى، يعني: مثل السُّكر حد لله تعالى، إذا تاب سقط عنه، ومثل النهب، التعزير وأشباه هذه، حقوق لله تعالى.
دفع الصائل
ذكروا بعد ذلك: "دفع الصائل". من أُريدَ ماله أو نفسه أو حرمته، يعني: جاءه قطاع طريق، وقالوا: سلم لنا نفسك لنقتلك. هل يسلم لهم نفسه؟ يقاتِل، يقاتل ولو قتلهم. أو سلم لنا مالك، وإلا قتلناك. هل يسلمه لهم؟ يقاتل، ولو قُتل أو قَتل. سلم لنا امرأتك؛ لنزني بها. لا يسلم، ولكن يقاتِل ولو قُتل.
فإذا قتلهم دفاعا -دافعهم ولكن لم يندفعوا إلا بالقتل- فلا غرامة عليه ولا قصاص؛ لأنه يقول: قاتلتهم أو قَتلتُهم دفاعا عن نفسي، فأنا مظلوم، وأنا معتدًى عليّ. ففي هذه الحال، لا غرامة عليه فيما قَتل. لو مثلا أنه قطع يد هذا، وأنه فقأ عين هذا، وأنه قطع رجل هذا، ثم بعد ذلك تخلص منهم، فطالبوه -فلا حرج عليه.
تعرفون حديث « من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد »(17) معناه أنه يقاتل حتى يُقتل، ولا يستسلم، ولا يسلم لهم نفسه، ليفجروا به مثلا بفعل الفاحشة، ولا يسلم لهم امرأته، ولا يسلم لهم ماله.
وجاء عن النبي- صلى الله عليه وسلم- « أن رجلا قال: يا رسول الله إن جاءني باغ وقال: أعطني مالك؟ قال: لا تعطه. قال أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار. قال: أرأيتَ إن قتلني؟ قال: أنت شهيد »(18) فلا ضمان عليه. هذا يتعلق بالقطاع ويتعلق بدفع الصائل.
حكم البغاة
بعد ذلك ذكر البغاة. البغاة: هم الذين يخرجون على الإمام. إذا كان لهم شوكة، وعندهم قوة، ولهم نوع من التأويل، كأنهم ينكرون على الإمام. أنهم يقولون: إن هذا الإمام، أو هذا الملك أو نحوه، كافر؛ لأنه فعل كذا؛ ولأنه فعل كذا وكذا، فهؤلاء بغاة.
يخرجون على الإمام، ولهم تأويل سائغ، لهم تأويل يعني: شبهة. فماذا يفعل؟ يبدأ بمراسلتهم، فإذا كان لهم شبهة أزالها، يزيل ما يدعونه من شبهة ومظلمة. إذا ادعوا مظلمة أزالها، وإذا ادعوا شبهة أزالها. فإذا فاءوا، وإلا قاتلهم، يقاتلهم إذا كان قادرا على قتالهم، كما فعل عليٌّ مع الخوارج.
هذا حكم البغاة، الذين هم ملحقون بقطاع الطريق، وفيهم كلام طويل، مذكور في كتب الفقه. والله أعلم، وصلى الله على محمد.
أحسن الله إليكم، وأثابكم ونفعنا بعلمكم، وجعل ما قدمتم في ميزان حسناتكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
بعد ذلك ذكر البغاة. هم الذين يخرجون على الإمام. إذا كان لهم شوكة، وعندهم قوة، ولهم نوع من التأويل، كأنهم ينكرون على الإمام. أنهم يقولون: إن هذا الإمام، أو هذا الملك أو نحوه، كافر؛ لأنه فعل كذا؛ ولأنه فعل كذا وكذا، فهؤلاء بغاة.
(1) سورة البقرة: 219 (2) سورة الأعراف: 33 (3) سورة النساء: 43 (4) سورة المائدة: 90 (5) سورة المائدة: 91 (6) سورة الصافات: 47 (7) سورة الواقعة: 18 - 19 (8) أحمد (4/388) , والدارمي : الحدود (2313). (9) مسلم : الأشربة (2003) , والترمذي : الأشربة (1861) , والنسائي : الأشربة (5582) , وأبو داود : الأشربة (3679) , وأحمد (2/98). (10) الترمذي : الأشربة (1865) , وأبو داود : الأشربة (3681) , وابن ماجه : الأشربة (3393) , وأحمد (3/343). (11) البخاري : الحدود (6783) , ومسلم : الحدود (1687) , والنسائي : قطع السارق (4873) , وابن ماجه : الحدود (2583) , وأحمد (2/253). (12) البخاري : الحدود (6795) , ومسلم : الحدود (1686) , والترمذي : الحدود (1446) , والنسائي : قطع السارق (4906 ,4907 ,4908 ,4909 ,4910) , وأبو داود : الحدود (4385) , وابن ماجه : الحدود (2584) , وأحمد (2/6 ,2/54 ,2/64 ,2/80 ,2/82 ,2/143) , ومالك : الحدود (1572) , والدارمي : الحدود (2301). (13) سورة المائدة: 33 (14) سورة البقرة: 196 (15) البخاري : العلم (111) , والنسائي : القسامة (4744) , وابن ماجه : الديات (2658) , وأحمد (1/79) , والدارمي : الديات (2356). (16) سورة المائدة: 34 (17) الترمذي : الديات (1421) , والنسائي : تحريم الدم (4095) , وأبو داود : السنة (4772) , وابن ماجه : الحدود (2580) , وأحمد (1/187). (18) مسلم : الإيمان (140). |