الأسباب التي توجب حد الردة
وقد ذكر العلماء الكلمات التي يكون بها مرتدا، والأسباب التي تخرج من الإسلام، ولو راجعتم كتب الفقهاء، لوجدتم فيها الكثير، حتى ذكر بعضهم أكثر من مائة خصلة، إذا فعلها كفر.
يقول هنا: "فمتى ادعى النبوة". هذا ردة، من ادعى النبوة فإنه كافر مرتد، أو سب الله أو سب النبي- صلى الله عليه وسلم- فإنه يعتبر مرتدا، أو جحد وأنكر وجود الله -كالدهريين- كفر أيضا، أو جحد صفة من صفاته -الصفات الثابتة- كفر أيضا.
إذا جحد مثلا صفة السمع التي أثبتها الله، وصفة الوجه، وصفة العلم، وصفة القدرة، أنكرها إنكارا كليا، صدق عليه أنه ارتد. أو جحد كتابا من كتبه، فقال: هذا القرآن مفترى، ليس هو كلام الله، وليس هو منزل، وإنما افتراه محمد. كقول المشركين الذين قالوا: إن هذا إلا إفك مفترى ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾(1) أساطير الأولين يعني: ما سطروه وما كتبوه.
وكقولهم: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾(2) وكقولهم: إنها تملى عليه بكرة وأصيلا. أو جحد رسالة محمد، أو جحد رسالة موسى، أو إبراهيم أو عيسى، أو أحد الأنبياء، وقال: إنه كذاب. حتى الذين قالوا: إن سليمان ساحر، ليس بنبي، يكفرون بذلك. أو جحد ملكا من الملائكة الذين سُموا في القرآن، كجبريل وميكائيل ومالك خازن النار، ونحوهم من الملائكة، الذين ذِكرهم وارد في القرآن.
أو جحد إحدى العبادات الخمس، إذا أنكر الشهادة وقال: لا فائدة فيها، أو لا أقر بلا إله إلا الله، أو جعل مع الله آلهة أخرى، أو استباح الشرك -أي نوع من الشرك- كالسجود للأصنام، أو دعاء الأموات مع الله تعالى، أو تعظيم المخلوق كتعظيم الخالق.
وكذلك إذا جحد وجوب الصلاة وقال: إن هذه الصلاة فكرة من محمد، ما أمر بها. أو قال: لا فائدة فيها، إنها شاغلة عن الأعمال الدنيوية، فلا فائدة فيها. حتى ولو كان يصلي، اعتبر كافرا. أو جحد وجوب الزكاة المفروضة، وادعى أنها تكليف، وأنها ظلم، الذي يأخذها من الأموال ظالم لهم.
أو جحد وجوب الصوم وقال: إنه تكليف شاق، ماذا يفيد كونهم يظمئون أنفسهم؟ ويجيعون أنفسهم؟ يكون بذلك كافرا مرتدا. أو جحد وجوب الحج، حتى لو حج، اعتبر بذلك مرتدا. أو جحد شرعية الجهاد وقال: إن هذا خطأ حيث، يكلف الإنسان أن يتعرض لقتل نفسه، يتعرض لأن يقتل.
أو جحد أيضا إباحة النكاح، أو حرم النكاح الحلال، أو حرم الطلاق، قال: لا يباح أنه يطلق. وكذلك الذين حرموا تعدد الزوجات، وقالوا: إن هذا ظلم للمرأة أن يتزوج عليها، أو أباحوا للمرأة أن تتزوج اثنين، يجتمعان في وطئها، أو أباح ذوات المحارم، كالبنات والأخوات.
وكذلك لو حرم حكما ظاهرا مجمعا عليه، إذا أباح الزنا وقال: إن الشرع أخطأ حيث حرمه، إذا بذلت المرأة نفسها باختيارها، فتحريمه غلط، لا بأس به. أو أباح الخمر وقال: إنها شراب طيب، كيف يحرمها الشرع؟ أخطأ في تحريمها، حتى ولو كان لا يشربها. أو أباح الربا وقال: إنما البيع مثل الربا، لا فرق بينهما، فلماذا حرم هذا وأحل هذا؟ أو أباح شيئا، معلوما من الدين بالضرورة تحليله أو تحريمه.
فلو حرّم مثلا أكل الخبوز، التي هي من كسب طيب، أو أباح أخذ الرشوة، أو أباح قتل المسلم بغير حق، أو ما أشبه ذلك. ذكرنا أن بعضهم أوصلها إلى مائة من الخصال التي يكفر بها.
يكثر الاستهتار بأحكام الإسلام، أن كثيرا من ضعاف الإيمان يضحكون من المؤمنين، ويسخرون منهم، وهذه السخرية لا شك أنها ذنب كبير، قد يوقع في الكفر وفي الردة. تذكرون قصة الساخرين، الذين حكم الله تعالى بردتهم -في غزوة تبوك- لما قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء! -يعنون النبي- صلى الله عليه وسلم- والقراء الذين معه- ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء! أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء. كذبوا، ليسو أرغب بطونا، ليس همهم بطونهم، ولا همهم فروجهم.
وحدث قبل أربعين سنة، أو ثلاث وأربعين، أن اليهود نشروا نشرة في بعض صحفهم، ثم التقطها أيضا أتباع لهم من أهل مصر ونشروها، ما هي تلك النشرة؟ صوروا صورة ديك، وكتبوا تحته بخط عريض: " ده محمد أفندي، اللي متجوز تسع ". هكذا تجرءوا هذه الجرأة، صوروا النبي - صلى الله عليه وسلم- في صورة ديك، وادعوا أنه ليس له هم إلا فرجه، أنه من أجل شهوته تزوج تسعا.
لما نشرت هذه النشرة، التقفها بعض المصريين ونشروها، كأنهم مقرون لها، ثم رد عليهم أحد علماء مصر، واستبشع قولهم، وكتب الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- رسالةً ردًا عليهم -على هذه المقالة- وردا على جمال، في قوله بالاشتراكية في تلك السنين، حيث أمَّمَ كثيرا من الأموال، وانتزعها وقال: إن الناس شركاء. عنوان رسالة الشيخ -رحمه الله- . ..
فتكلم على تلك الصورة, والذين أقروهم من المصريين, واستبشع مقالتهم وجعل هذا ردة عن الإسلام، ثم تكلم -أيضا- عن "الاشتراكية" فمثل هذه الكلمة تعتبر ردة.
ونقولك إن كثيرا يتهاونون بمثل هذه الكلمات, وقد عدها الله -تعالى- من أسباب الارتداد والعياذ بالله، قال الله -تعالى- في سورة البقرة: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾(3) السخرية من الذين آمنوا تعتبر كفرا؛ لأنهم إذا سخروا منهم فكأنهم يسخرون من دينهم الذي يفتخرون به.
وقال -تعالى- في قصة الذين في غزوة تبوك: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا﴾(4) فكفَّرهم بهذا الأمر، ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾(5) دل على إنهم كانوا آمنوا، وأن هذه الكلمة ارتدوا بها وأصبحوا كافرين.
وقال -تعالى- أيضا في سورة التوبة: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾(6) هكذا عادة الكفار أنهم يسخرون من المؤمنين كما قال الله -تعالى- في قصة نوح: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾(7) يعني: أنهم يسخرون من نوح وصناعته للسفينة، ولكن هكذا قال لهم.
فأنت مثلا إذا جاءك من يسخر بك تقول: إن تسخر منا فإننا نسخر منكم، فالذين -مثلا- يسخرون من اللحية … ابتلي كثير بمعاداة اللِّحى، وصاروا يسخرون من الذين يربونها فيلمزونهم: كأنها ذَنَبُ تَيْسٍ، كأنها عارض على جائر، كأنها مكنسة بلدية. هذا سخرية من السنة، قل لهم: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾(7) ؛ لأن هذا استهزاء بالسنة، السنة النبوية التي جاءت بهذا الأمر لا شك أن هذا سخرية بالشرع والشريعة فيلحق بالمرتدين -والعياذ بالله-.
وقد سماهم الله -تعالى- المجرمين، تقرءون قول الله -تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾(8) … إلى آخر السورة، يعني: أنهم يتنقصونهم ويقولون: هؤلاء مساكين! أضاعوا حياتهم بتعلم هذه الأبواب: تعلم صلاة وتعلم طهارة، وتعلم صيام، فاتهم السبق, فاتهم التقدم، الناس وصلوا إلى الأفلاك العليا، وصلوا إلى القمر، وصنعوا الذرة,. .. ونحو ذلك.
وأما هؤلاء فإنهم أضاعوا أعمارهم، يتعلمون: باب التيمم، باب الخير أو باب إزالة النجاسة أو باب كذا وكذا !! فلم يستفيدوا إلا هذه العلوم التي نقصت على أعمارهم, وضيعت عليهم تقدمهم، أليس هذا سخرية ؟!.
نعم إنه سخرية بعلوم الشريعة, وإنهم وإنْ تعلموا ما يقولون فإنه قد فاتهم الخير الكثير، وكذلك -أيضا- الذين يسخرون أو يتنقصون أهل الأعمال الصالحة، أهل الذكر والتسبيح وقراءة القرآن، وعمارة المساجد والاعتكاف بها، ويقولون: هؤلاء رجعيون! هؤلاء متأخرون! هؤلاء متخلفون! لا شك أن مثل هذا -أيضا- يعتبر كفرا ابتلي به كثير من الناس، يقول فيهم بعض المعاصرين:
خفـافيش هـذا الـوقت كان لها ضررْ *** وأوباشـها بيـن الـورى شـرها ظهرْ
يعيبــون أهل الدِّين من جـهلهم بهم *** كما عابـت الكفــار من جاءهـم بالنذرْ
يقولــون: رجــعيون لما تمسـكوا *** بنـص مـن الوحـييـن كـان لـه أثر
وإعفـائهم تلـك اللِّـحـى لجمالهــا *** تــرك سـواد حـين كـان به ضـرر
وحــملهم تلـك العصــي لأنهــا *** لــديهم حناقــات ومســواك مطهـر
يعيبونهم حتى بالمسواك! مع أنهم جعلوا بدل المسواك السُّني، جعلوا بدله السجائر -والعياذ بالله- فيفخرون بالسجائر, إذا ولع أحدهم سيجارته أخذ يتمايل، وأخذ يفتخر, وإذا رأى من أمسك سواكا أخذ يلوك به أخذ يتَنَقَّصه ويعيبه, فمثل هؤلاء يعتبرون مرتدين إذا كانوا يستبيحون مثل هذا.
وبذلك تعرف أن أمر الردة أمر خطير، وأنه يدخل فيه كل من يستهزئ بشيء من الشريعة، وأنهم سوف يعذبون في الآخرة, اقرأ قول الله -تعالى- في سورة ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾(9) قال الله -تعالى: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾(10) اتخذتموهم لما أنهم كانوا يدعون ويتعبدون ﴿وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا﴾(11) .
فيحذر المسلم أن يقع في الردة وهو لا يشعر, يستعمل مثل هذه الكلمات التي خطرها كبير فيقع في تنقص الدين أو تنقص المؤمنين؛ لأجل إيمانهم ولأجل عقيدتهم ولأجل علومهم الشرعية -فيهلك ويحبط عمله وهو لا يشعر, يتساهل بكلمة يقولها، وقد يقولها مازحا وقد يقولها ضاحكا. ولا يعلم أنها تُتْلِفُه وأنها تهلك عليه أمر دينه ودنياه, وأنه أهلٌ بذلك أن يُقام عليه حد الردة.
(1) سورة الفرقان: 5 (2) سورة النحل: 103 (3) سورة البقرة: 212 (4) سورة التوبة: 65 - 66 (5) سورة التوبة: 66 (6) سورة التوبة: 79 (7) سورة هود: 38 (8) سورة المطففين: 29 (9) سورة المؤمنون: 1 (10) سورة المؤمنون: 108 - 110 (11) سورة المؤمنون: 110 - 111 |