أحكام الأطعمة
الأطعمة المحرمة
ذكرنا أن الفصل الذي بعده يتعلق بالأطعمة, بعض العلماء يذكرون الأطعمة مع المعاملات, يعني: مع البيع والشراء والإجارة؛ لأن فيها بيان ما هو مأكول وما ليس بمأكول، ولكن ذكروها ها هنا؛ لأن أكثر ما ذكروه من المباحات هو الحيوانات التي تحتاج إلى ذبح؛ ولذلك ذكروا بعده الذكاة، وذكروا بعده الصيد.
فكأنهم لما ذكروا القِصاص، ولما ذكروا الحدود، قالوا: هذا ما يتعلق بالآدمي، فكيف ما يتعلق بالإنسان، فقالوا: إن هناك ما يُقتل من الحيوانات: كالكلاب الضارية، والسباع ونحوها فإنها تُقتل حتى في الحرم والإحرام, ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتلها، وقال: « خمس من الفواسق تقتل في الحل والحرم »(1) وذكر منها: الكلب العقور فعند ذلك قالوا: نحتاج إلى أن نعرف ما يُقتل من هذه الحيوان، وما يؤكل وما ليس بمأكول.
وذكروا بعد ذلك الأطعمة. كل طعام طاهر لا مضرة فيه -حلالٌ، وأصله الحل من النباتات ومن الثمار، ومن الحيوانات، وما أشبه ذلك، الأطعمة يأكل الإنسان منها ما يناسبه، وتأكل الحيوانات ما يناسبها حتى من النباتات، قال الله -تعالى-: ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾(2) يعني: من هذا النبات، قد يكون بعض النبات يناسب الإنسان أن يأكل منه كبعض أوراق الزرع، أو ما أشبهه، وثمره الذي هو السنبل، وثمر النخل الذي هو التمر، وثمر العنب الذي هو الزبيب، وثمر التين والتوت، وثمر الرمان، وأشباه ذلك من الثمار التي هي من الطيبات طعام طاهر طيب مغذٍ ليس فيه مضرة، فإنه مباح حلال.
وأما إذا كان فيه مضرة -ولو كان يأكله الآدمي- فإنه يكون حراما، هناك -مثلا- ما يسمى بالحشيش يأكله كثير من الناس, ولكنه محرم؛ لأنه مضر، وهناك ما يُصنع من عصير العنب حتى يُسْكِرَ وهو الخمر، فهذا ولو شربه كثيرون لكنه حرام، ولو قالوا: إنه شراب طيب لكنه مُضِرٌّ بالعقل فيكون حراما، وهناك -مثلا- ما يسمى بالقات يأكله كثيرون, ولكنه مضر، ولو كثر الذين يأكلونه فيكون حراما، ولا عبرة بمن يستحلونه فيدعون أنه مأكول، وأن فيه. .. وفيه. ..، لا عبرة بهم فإنهم كالبهائم التي تستحلي ما هو مر في ذوق الإنسان، وتستجيز ما فيه مضرة.
الذين يشربون الدخان يعرفون بأنه مضر، يعترفون، ومع ذلك يستمرون فيه فلا عبرة بهم، والذين يشربون الخمر قد يعترفون بأنها حرام، ولكن مع ذلك يصرون على شربها، والذين يأكلون الحشيش وهو نوع من النباتات مضر ظهر في حدود القرن السادس، وانتشر الأكل منه، وأفتى العلماء بتحريمه حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخمر بمنزلة الأبوال، والحشيش بمنزلة العذرة. (العذرة: الغائط الذي يخرج من الإنسان، تنفيرا منه).
ومع ذلك يكثر الذين يأكلونه، وكذلك الذين يستبيحون أكل هذا النبات الخبيث: القات، وثمر آخر يقال له: الجير، قد يكون أخف ضررا من القات، ولكن لا منفعة فيه، قد يكون ثمنه رفيعا، ونبات آخر رائحته قبيحة يسمونه البرتجال، وليس هو البرتقال فإنه من الطيبات، ولكن نبات رائحته خبيثة، وكذلك ما يسمى بالشمة الذي يمضغونها ثم يمجون ريقا، هؤلاء لا شك أنهم استحسنوا القبيح فلا عبرة بهم، ولو ادعوا أن هذا من الطيبات فإنه من الخبائث، ولا يغتر بكثرة من يتعاطى ذلك أو من يمدحه.
وفيما يظهر أن الشيح الحكمي -رحمه الله- أول من نظم فيه منظومته لما سئل عن القات، نظم فيه منظومة تائية في تحريمه وبيان آفاته، وذكر من مضاره أنه يضيع الصلاة، يقول في منظومته:
إن جاءه الظهر فالوسطى يضيعهـا *** أو مغـرب فعشاء قطُّ لم يَاتِ
وإن أتاهـا فمـع سهو ووسوسـة *** .....................
يعني: يأتيها وهو غير عاقل، رد عليه أحد علماء اليمن يقال له: ابن المهدي ردا ضعيفا، ثم جاءه ذلك الرد فرد عليه أيضا منظومة طويلة افتتحها بالتاء:
الحمــد لله في كــل البَرِيَّاتِ *** وبـدء كـل شـئون واخْتِتَامات
ثـم الـصلاة على خاتم النبوات *** محـمد مَـن أتانـا بالكرامـات
يعني ما يدل على تمكنه رحمه الله.
يقول: "وحرم نجس" كل شيء نجس فإنه محرم، كالدم الدم نجس؛ لأن الله -تعالى- حرمه، والميتة نجسة فيحرم أكلها إلا ما ذكره الله لقوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾(3) ولحم الخنزير نجس، ومثله -أيضا- المحرم من الحيوانات.
"وكل ما هو مضر مثل السم" -يذكر في الحاشية أنه مُثلث السين: السُّم والسَّم والسِّم- كل ما يقتل إذا أُكل أو شُرب، وكذلك ما هو مضر من الحيوانات البرية يحرم منها ما يفترس: ما يفترس بنابه كالأسد، والنمر، والفهد والثعلب، وابن آوى، وابن عرس، هذه تفترس ولها ناب.
ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كل ذي ناب من السباع التي لها ناب تفترس به وتعدو على الناس، استثني الضبع، حرمه أكثر العلماء، وأباحه الإمام أحمد؛ لأنه ورد فيه حديث ولكن الأقرب أنه حرام؛ وذلك لأنه ذو ناب, ولأنه يفترس, ولأنه يأكل الجيف, فيكون بذلك أقرب إلى كونه محرما.
ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- « نهى عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير »(4) المخلب: هو أصابعه المحددة، الطيور بعضها أصابعه محددة يفترس بها، ويأخذ صيده بها قد يمسك مثلا الشيء الثقيل بمخالبه، ويرتفع به يصيد بمخلبه كعقاب، وصقر، وغراب، وبازي، وباشت، وما أشبهها هذه أيضا محرمة لأنها لها ناب تفترس بنابها.
وكل ما يأكل الجيف كالكلاب والسنانير القطط، ومن الطير النسور، والرخم وما أشبهها مما يأكل الجيف؛ لأن الجيف محرمة، وما أكلها فهو محرم، وكل ما تستخلفه العرب ذوي اليسار، العرب الذين هم أهل يسار وسعة من الرزق بخلاف الضعفاء والفقراء ونحوهم؛ فإنهم قد يأكلون الخبائث.
حتى سئل بعضهم: ماذا تأكلون من الدواب؟ فقال: نأكل كل ما دبَّ ودرج إلا أم حُبَين. وأم حُبَين: دابة كهيئة الخنفسة، يأكلون كل ما دب ودرج، يأكلون الفئران، ويأكلون الخنافس، ويأكلون الحشرات -مثلا- التي يمكن أن يصيدوها حتى الزنابير والفراش وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذه مستخبثة.
مثَّل بطير يقال له: الوطواط هذا -أيضا- محرم؛ لأنه مستخبث، والقنفذ وهو الذي عليه شوك على جلده, والنيص مثل القنفذ إلا أنه أكبر منه ولكن شوكه طويل قد اكتسى بجلده, إذا جاءه أحد فإنه ينفض جلده وتطير الشوكة نحو عشرة أمتار تصل إلى الذي يريد أن يرميه بذلك الشوك.
"وما تولد من مأكول وغيره كبغلٍ" لأنه يتولد من الحمار والخيل, فيكون محرما فهذه هي المحرمات من الحيوانات. ذكروا أن مما حرم في الحديث الحمر الأهلية؛ لأنها مستخبثة ولو كانت من بهيمة الأنعام.
ومما حرم -أيضا- ما يتغذى بالنجاسة كالجلاَّلة من الإبل أو البقر أو الغنم، وهي التي تأكل العَذِرة إلحاقا لها بالمستخبث, إذا كان أكثر طعامها من هذه النجاسات, تتبع العذرة وتأكلها فتكون بذلك تأكل نجاسة، يقولون: لا يشرب لبنها، ولا يؤكل لحمها حتى تُحبس. .. تحبس الناقة أربعين يوما كما ذكر ذلك بعضهم، وتطعم حلالا حتى يطيب لحمها، وكذا يحبس غيرها.
وهكذا -أيضا- الدجاج الذي يأكل العذره فإنه لا يحل حتى يطيب لحمه، يعني: يحبس إلى ثلاثة أيام -وقيل عشرة- ويطعم حلالا.
يقول: "ويباح حيوان البحر كله سوى ضفدع، وتمساح، وحية".
الضفدع: تخرج في البر تخرج على الساحل, ولها نقيق فتكون ليست من حيوانات البحر؛ حيوان البحر هو الذي لا يعيش إلا في البحر.
والتمساح لا يعيش إلا في البحر، ولكن قالوا: إنه سام أو إنه مضر، وحية البحر مثل حية البر، وإن لم يكن فيها سم، بقية حيوان البحر يكون حلالا.
(1) (2) سورة طه: 54 (3) سورة البقرة: 173 (4) البخاري : الذبائح والصيد (5530) , ومسلم : الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1932) , والترمذي : الأطعمة (1477) , والنسائي : الصيد والذبائح (4326) , وأبو داود : الأطعمة (3802) , وابن ماجه : الصيد (3232) , وأحمد (4/193) , ومالك : الصيد (1075) , والدارمي : الأضاحي (1981). |