كفارة اليمين
شروط وجوب كفارة اليمين
يقول: "من حلف وحنِث وجبت عليه الكفارة". الحنث: مخالفة ما حلف عليه، حرام الحنث، إلا إذا كَفَّر، قال الله -تعالى: ﴿وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ﴾(1) .
ويُسمَى الحنث -أيضا- فجورا، من حلف وهو كاذب سُمِّيَ فاجرا، فمن حلف وحنث فقد ارتكب ذنبا، وعليه الكفارة تمحو ذلك الذنب الذي حلف عليه.
ذكروا لوجوب الكفارة أربعة شروط:
الشرط الأول: قصد عقد اليمين. قال الله -تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾(3) وفي آية أخرى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾(4) .
فأما لغو اليمين فإنه يُعْفَى عنه، وذلك مثل ما يجري على الألسن من غير عقد يمين في أثناء الكلام، يقول: "لا والله" و"بلى والله" ما عقد على ذلك قلبه، ولا قَصَدَه، أو حلف يظن صدق نفسه، فهذا لغو لا كفارة فيه ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾(3) .
أما إذا كان قاصدا، عازما على اليمين، فإنه يكفّر، لو جزم قال -مثلا-: والله لا أركب مع فلان، وهو عازم، فركب، عليه اليمين، والله لا أكلم هذا الرجل، وجبت عليه الكفارة إذا كلمه، والله لا أدخل هذا البيت، ثم دخله كَفَّر، والله لا آكل من هذا الطعام وجبت عليه إن أكل.
أو كذلك النفي، إذا قال -مثلا- أو الإثبات-: والله لأضربن فلانا، والله لأسافرن هذا اليوم، وأشباه ذلك، فعليه الكفارة. هكذا هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: كون اليمين على مستقبل.
على مستقبل: يعني على فعل مستقبل، إذا قال مثلا: والله لا أدخل هذا البيت، ولا ألبس هذا الثوب، ولا أشتري هذا الطعام. ثم فعل، فإنه يكفّر؛ لأن هذه أمور مستقبلة.
أو يقول: والله لأسافرن اليوم، أو أسافر -مثلا- غدا، أو بعد الغد. في هذه الحال -أيضا- لا كفارة عليه، عليه كفارة إذا حنث، لا كفارة حتى يحنث.
"فلا تنعقد على ماضٍ كاذبا عالما به" وهي اليمين الغموس، اليمين الكاذبة الفاجرة التي على ماضٍ، جاء في الحديث: « من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم »(5) -يعني: ليأخذ بها ما لا يحل له- « لقي الله وهو عليه غضبان »(6) « قيل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك »(7) يعني: عود سواك حلف عليه. هذه اليمين الغموس.
ومثلها -أيضا- إذا حلف كاذبا، وهو يعلم كذب نفسه، فإذا حلف أنه ما قتل فلانا، وهو الذي قتله، أو حلف ما أخذ ماله، وهو يعلم أنه قد أخذه، أو حلف ما دخل بيته، أو حلف ما ركب سيارته، أو ما أخذها، أو ما رآها، وهو كاذب في ذلك، فهذه هي اليمين الغموس، لماذا سميت؟.
لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار، في هذا الحديث: « لقي الله وهو عليه غضبان »(6) .
لو حلف ظانا صدق نفسه، فتبين بخلافه، فلا كفارة. إذا حلف -مثلا- أن هذا كتابي، يظن صدق نفسه؛ لأنه شبيه له، حلف -مثلا- أن هذا أخي، يظن أنه أخوه، وكان شبيها به، حلف أن هذا متاعي، أو أن هذا كيس فلان، يعتقد أنه كيسه، أو أنه كتابه، فتبين بخلافه، فإنه -والحال هذه- لا كفارة عليه؛ لأنه معتقد صدق نفسه.
كذلك إذا حلف على فعل مستحيل، فلا كفارة عليه؛ لأنه يعرف كذب نفسه، إذا حلف ليشربن ماء هذا الكوز، وليس فيه ماء، ففي هذه الحال لا يحنث؛ لأنه يعلم أنه مستحيل.
وذكروا من المستحيل الأشياء التي يستحيل قدرة الإنسان عليها، فلو حلف -مثلا- أن يقلب هذا الإناء ذهبا، أو يقلب هذا الماء لبنا، هل يقدر؟ هذا مستحيل. فيكون -أيضا- عليه الكفارة؛ لأنه يعلم أنه لا يقدر.
الشرط الثالث: كون الحالف مختارا.
أن يحلف باختياره، يُخرِج المُكْرَه، هناك من يكره على الحلف، كأن يكرهه إنسان ويقول: أنت الذي -مثلا- أنت الذي أخذت هذا المال، وسوف أقتلك, فينكر خوفا من القتل، فيقول: إن لم تحلف قتلتك. فيحلف حتى يتخلص من القتل ظلما، أنت الذي شربت هذا الماء، وهو ما شربه، أو شربه ولكن يخشى أنهم يعذبونه، فيحلف والحال هذه.
وهكذا -مثلا- كل ما فيه إكراه فإنه لا تنعقد يمينه؛ لقول الله -تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾(8) ولذلك ذكر أن المكره أنه لا إثم عليه، لو أُكره على شرب الخمر فلا يُحَدّ، أو أُكرهت المرأة على الزنا فلا حد عليها، أو أُكره -مثلا- على بيع ماله، أو -مثلا- بذله فلا يباع، ولا ينعقد البيع، لعدم اختياره.
وكذا لو أُكره على دخول دار، وكان قد حلف أنه لا يدخلها، حلف أنه لا يدخل في هذه الدار، فمسكه قوم وأوثقوه وغلوه، ودخلوا به، فإنه لا يحنث.
أو -مثلا- حلف أنه لا يأكل من هذا الطعام، ثم أكرهوه وقالوا: إن لم تأكل ضربناك أو قتلناك. فأكل لأجل التخلص.
ففي هذه الحال كونه لم يحنث مختارا، حنث وكان مكرها.
الشرط الرابع: الحِنْثُ.
الحِنْث: هو أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله، حلف أنه لا يأكل من هذا الطعام، وأكل، أليس قد حنث؟
وكذلك حلف ألا يلبس هذا الثوب، ولبسه، حلف ألا يركب هذه السيارة، وركبها، حلف ألا يكلم فلانا، وكلمه، هذا هو الحنث، فعل ما حلف أنه لا يفعله، وكذلك لو حلف على الترك، ولكن ما ترك، حلف أنه ما يسافر هذا اليوم، وسافر مثلا، أو حلف أنه لا يصلي في هذا المسجد شهرا، وصلى فيه، ففي هذه الحال يحكم بحنثه، إلا إذا كان مكرها كما ذكرنا.
إذا فعل ذلك مُكرها، إذا -مثلا- حلف على ألا يلبس هذا الثوب، وأُكْرِه حتى لبسه وهُدِّد, وكذلك إذا حلف -مثلا- ألا يأكل من الطعام، ثم أُكره وهُدِّد حتى أكل منه، فإنه لا يحنث.
وكذلك إذا كان جاهلا، حلف -مثلا- على ألا يلبس هذا الثوب، ولبس ثوبا يعتقد أنه غيره، وتبين أنه هو، ففي هذه الحال لا يحنث؛ لأنه ما تعمد.
وهكذا -أيضا- لو نسي يمينه، حلف -مثلا- أنه لا يكلم فلانا، ثم نسي وكلَّمه، فلا حنث عليه. هذه شروط وجوب الكفارة.
يقول: "يُسن الحنث، ويُكْرَه البر، إذا كان على فعل مكروه، أو ترك مندوب، وعكسه بعكسه.
تذكرون حديث أبي موسى، لما جاء في غزوة تبوك يطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحمله ويحمل قومه، فقال -صلى الله عليه وسلم: « ما عندي ما أحملكم، والله لا أحملكم، ثم جاءته إبل من إبل الصدقة، فأرسل إليهم خمس ذود غر الذرى، فعند ذلك قالوا: استغفلنا رسول الله يمينه، قد حلف أنه لا يحملنا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إني لأحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني »(9) .
وكذلك قال لعبد الرحمن بن سمرة: « إذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرا منها، فكفِّرْ عن يمينك، وأت الذي هو خير »(2) .
فإذا حلف أنه لا يكلم فلانا بغير سبب، فهذا حرام؛ هجرانٌ لمسلم، يكفِّر ويكلمه، مثلا أو حلف ألا يقبل هديه فلان، قبول الهدية مستحب يكفر ويقبل هذه الهدية، حلف ألا يجيب دعوة فلان، إجابة الدعوة من الواجبات أو المستحبات، يكفر عن يمينه ويجيب، يجيب تلك الدعوى، حلف أنه لا يصل فلانا، وكان له قرابة، أو لا يهدي إليه، أو لا يستضيفه، يُكفِّر عن ذلك ويفعل؛ فإن هذا فعل خير.
روي أن رجلا كان له دين على إنسان، فطلبوا منه أن يسقط من دينه، فحلف وقال: والله لا أسقط منه شيئا، أنكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: « حلف ألا يفعل خيرا »(2) يعني: حلف أنه ما يتنازل عن شيء من ماله، فالأولى أنه يسقط عن هذا الغريم المدين الفقير، وأن يكفر عن يمينه.
وهكذا -مثلا- إذا حلف أنه لا يتصدق في هذا الشهر، الصدقة خير، عليه أن يحنث، وأن يتصدق ويكفر، وهكذا -أيضا- في سائر المستحبات.
وكذلك -أيضا- يُكْرَه أن يَبَرَّ في يمينه إذا كانت فيها كراهة، يبر بها إذا كان فيها شيء من ترك البر، يكره بره بيمينه إذا كانت على فعل مكروه، أو ترك مندوب.
فعل المكروه، كأن يحلف -مثلا- أن يسب فلانا؛ لأنه قد سبه، سبَّني والله لأسبنه، والله لأخجلنه، وأفضحنه في كذا وكذا، الأولى لك أن تكفر ولا تفعل.
أو يقال -مثلا-: إن فلانا اغتابك، والله لأغتابنه، كَفِّرْ ولا تغتب، هذا فعل محرم أو مكروه.
أو -مثلا- إذا قال: إنه -مثلا- ضرب ولدك، حلف وقال: لأضربن ولده، الأولى أنك تعفو وتصفح، وأشباه ذلك.
وأما إذا كان فعل خير، فإن عليه أن يفي به، ويكره حنثه، إذا حلف: والله لأتصدقن في هذا اليوم، فلا يحقر صَدَقَة ولو بشيء قليل، أو حلف -مثلا-: والله لأقرأن في هذا اليوم جزءًا من القرآن، يُكْرَه حنثه، يوفي بما حلف عليه.
أو كذلك -مثلا- إذا كان -مثلا- مدخنا حلف: والله لا أدخن في هذا اليوم. عليك أن توفي بيمينك.
أو -مثلا- كان يسمع الغناء حلف: والله لا أسمعه في هذا اليوم. عليك أن توفي بيمينك؛ لأن هذا فعل خير، لأنك حلفت على ترك الشر، وأشباه ذلك.
هذا ما نقول، وعكسه بعكسه، إذا حلف أنه يفعل خيرا أو يترك شرا، فعليه أن يوفي بما حلف، يفعل خيرا، حلف -مثلا- أن يتصدق، حلف أن يقرأ في هذا اليوم جزءا، حلف أن يصلي في هذه الليلة ساعة، حلف -مثلا- أن يزور في هذا اليوم مريضا، أو يتبع فيه جنازة، هذا فعل خير، لا تحنث، أوفِ بيمينك.
وكذلك الترك، إذا حلف -مثلا- أني لا أشرب الدخان هذا اليوم، أو لا أسمع الغناء هذا اليوم، أو لا أنظر إلى الصور هذا اليوم، أَوْفِ بيمينك، ولا تحنث؛ فإنك حلفت على خير.
(1) سورة الواقعة: 46 (2) (3) سورة البقرة: 225 (4) سورة المائدة: 89 (5) البخاري : المساقاة (2357) , ومسلم : الإيمان (138) , والترمذي : تفسير القرآن (2996) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3243) , وابن ماجه : الأحكام (2323) , وأحمد (1/426). (6) البخاري : الشهادات (2673) , ومسلم : الإيمان (138) , والترمذي : تفسير القرآن (2996) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3243) , وابن ماجه : الأحكام (2323) , وأحمد (1/379). (7) مسلم : الإيمان (137) , والنسائي : آداب القضاة (5419) , وابن ماجه : الأحكام (2324) , وأحمد (5/260) , ومالك : الأقضية (1435) , والدارمي : البيوع (2603). (8) سورة النحل: 106 (9) البخاري : الذبائح والصيد (5518) , ومسلم : الأيمان (1649) , وابن ماجه : الكفارات (2107) , وأحمد (4/401). |